مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. صحفي الشنطة .. هذا ما فعلته بنا مكاتب الصحف العربية !

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ

في بدايات علمنا في صالات التحرير على اختلافها سمعنا لأول مرة تعبيرًا صدم أذاننا، وكان صاحب التعبير يسخر من ظاهرة عرفتها الصحافة المصرية بداية من فترة تسعينيات القرن الماضي عندما لجأت صحف ومجلات عربية للقاهرة لفتح مكاتب لها . وبداية اصطدام جيلي بهذا المصطلح المزعج ( صحفي الشنطة ) كان خلال حرب الخليج الأولى، وكنا بحكم وجودنا في صالة تحرير جريدة مصر الفتاة كانت السياسة التحريرية للصحيفة وللحزب أن نغطي الحرب بشكل منحاز للعراق، ولم يكن مفهوما في ذلك الوقت كيف نغطي حربا منحازين لطرف يقف الجيش المصري في الخندق المواجه له، ولكن في كل الأحوال كان الشارع في مصر متعاطفا مع صدام حسين لأسباب مختلفة أبرزها ما تداوله عشرات الالاف من المصريين الذين عاشوا في العراق عن محبة صدام للمصريين وحمايته لهم، وبدأت الحرب وانتهت كما هو معلوم عن نتائجها، قبل الحرب وبعدها لم يتوقف رئيس تحرير الصحيفة عن نشر مواد غير محايدة وبعضها يقترب من الانحياز الكامل ومواد العلاقات العامة لصالح العراق وهو طرف كان الجيش المصري خلال فترة الحرب خصما له، والمدهش أنه بعد انتهاء الحرب نشر رئيس التحرير حوارا مع طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي، وظهرت في الحوار نفس الصورة مكررة لنائب الرئيس العراقي وهو بالزي العسكري، بينما كان الحوار معه بالزي المدني، وهى ملاحظة كانت تستحق أن تخضع للتدقيق في وقتها.

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. صحفي الشنطة .. هذا ما فعلته بنا مكاتب الصحف العربية !

لكن في كل الأحوال فقد اكتشفنا بشكل صادم أن كل المواد المنحازة التي نشرت في جريدة مصر الفتاة في ذلك الوقت لصالح العراق كان أحد الصحفيين من ذوي الخبرة في الصحيفة يعيد صياغتها حتي بنفس المصادر لتكون مؤيدة للكويت ونشرها في مجلة كويتية من خلال مكتبها في مصر، وقتها عرفنا لأول مرة معنى مصطلح ( صحفي الشنطة )، بل وظهر لنا نماذج كنا نراهم وكأن مظهرهم العام يؤكد هذا المصطلح الصادم ( صحفي الشنطة ) ، وهو صحفي يلجأ لكسب قوته لجمع المواد المكتوبة على ورق والمرور بها على مكاتب الصحف والمجلات العربية في القاهرة، وكان معظم هذه المكاتب تتجمع في منطقة وسط القاهرة وبعضها في منطقة راقية من ضواحي القاهرة، وفي كل الأحوال كان ( صحفي الشنطة ) يستطيع المرور على قديما في جولة يومية على معظم هذه المكاتب ليبيع لهم ما لديه من موضوعات مكتوبة على ورق أصفر ( ورق الدشت ) مع صور يحصل عليها من نفس مصور الجريدة الأصلية التي يعمل بها لقاء مكافأت بالقطعة تتناسب مع ما يقدمه لهم من مواد محررة .

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. صحفي الشنطة .. هذا ما فعلته بنا مكاتب الصحف العربية !

الحقيقة إن هذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة لدراستها تاريخيا، لأنها ليست موجودة حاليًا كما كانت موجودة في تسعينيات القرن الماضي، لأني في تقديري أن من وصفوا ب ( صحفي الشنطة ) هم من أكفأ المحررين الذين مروا على بلاط صاحب الجلالة، لأنهم ببساطة لا يملكون تقديم محتوى ضعيف لأن رزقهم من جودة وقوة المحتوى الذي يقدمونه، لكن في نفس الوقت فإنه يمكن اعتبار أن ( صحفي الشنطة ) بشكل عام ليس شخصا جشعًا بل هو ضحية لظروف مهنية واقتصادية جعله يلجأ لبيع أعماله لمكاتب الصحف العربية في القاهرة، وكان معظم القائمين على هذه المكاتب مجرد سماسرة يتعاملون مع من وقع تحت يديهم من هؤلاء الصحفيين بمنطق الاستغلال الكامل، بل أني رأيت بعض الصحفيين الذين اضطروا لمثل هذه الطريقة لكسب قوتهم يقبلون مبالغ زهيدة جدا لقاء موضوعات هى انفرادات على المستوى المهني، ومع الأسف ففي بعض الأحيان كانت هذه المنشورات تنشر بأسماء غير أسمائهم .

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. صحفي الشنطة .. هذا ما فعلته بنا مكاتب الصحف العربية !

وقد يكون هذا سياقا مناسبا لطرح قضية أجور الصحفيين المصريين وكيف كانت هذه الأجور لا تتناسب أبدا في معظم الفترات بما يؤديه الصحفي من دور في بناء الوعى العام للمجتمع، الحقيقة إني في رحلتي عبر صالات تحرير في أكثر من دولة لم أجد صحفيا يعاني ماليًا مثل ما يعانيه الصحفي المصري، مع أن الصحفي المصري هو الأكثر مهارة في كل صالات التحرير التي مررت عليها، سواء من حيث إنتاج المحتوى الصحفي أو حتى من حيث المراجعة والتدقيق فيما يعرف بوظيفة ( الديسك ) أو الصياغة كما يطيب للقائمين على صالات التحرير العربية تسميتها.

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. صحفي الشنطة .. هذا ما فعلته بنا مكاتب الصحف العربية !

وقد يكون من تحصيل الحاصل القول بأن الصحافة المصرية تشهد تفاوتًا كبيرًا في الأجور بين صحفي وآخر، وبين مؤسسة صحفية وأخرى. هذا التفاوت، الذي لم يتم معالجته بشكل جدي، يؤدي إلى تدهور الأوضاع المعيشية لمعظم الصحفيين، وقد يكون من تحصيل الحاصل ايضا القول أن نقابة الصحفيين والجهات المعنية بالشأن الإعلامي تحاول جاهدة العمل على وضع آلية عادلة لتحديد أجور الصحفيين، بحيث تتناسب مع طبيعة العمل والمؤهلات العلمية، وتضمن حصول الصحفي على أجر عادل يكفيه ومتطلبات أسرته ولكن ظني أن حجم المشكلة أكبر من قدرات أى نقابة.

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. صحفي الشنطة .. هذا ما فعلته بنا مكاتب الصحف العربية !

وفي كل الفترات التي عملت فيها في بلاط صاحبة الجلالة كانت هناك جهود تبذل من أجل العمل على وضع حد أدنى للأجور في قطاع الصحافة، وتوفير الحماية الاجتماعية للصحفيين، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك تفاوتاً كبيراً في الأجور بين الصحفيين العاملين في المؤسسات الصحفية المختلفة، حيث يحصل صحفيو الصحف القومية على رواتب أعلى قليلًا من نظرائهم في الصحف الخاصة والحزبية والمستقلة. ومع ذلك، فإن رواتب جميع الفئات لا تتناسب مع التضخم المتزايد وارتفاع أسعار السلع والخدمات. وفي مثل هذه الظروف التي لم تتغير ابدًا مع الأسف فإن العديد من الصحفيين يضطرون للعمل في وظائف إضافية لتغطية نفقاتهم المعيشية، مما يؤثر على جودة عملهم الصحفي ويقلل من وقتهم المخصص للإنتاج الصحفي.

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. صحفي الشنطة .. هذا ما فعلته بنا مكاتب الصحف العربية !

وإن مسالة الأجر المتدن الذي يحصل عليه الصحفي هى مع الأسف قضية شائكة ومستمرة وممتدة، فمعظم من أنهى الدراسة من دفعتنا في كلية الإعلام بجامعة القاهرة يكافح ليحافظ على وجوده في دائرة ضيقة جدًّا من الإصدارات التي كانت تسمح، في ذلك الوقت، باستقبال صحفيين جدد للعمل فيها أملاً في التعيين. والحقيقة أن نفس هذه المؤسسات، على اختلافها بين صحف حكومية وحزبية، كانت ترحب بنا ونحن طلاب في كلية الإعلام لتستغل حماسنا وتحصل على عصارة جهد شباب يافع مقبل على الحياة بأمل في مقابل مبالغ زهيدة هي مكافآت التدريب التي لم يكن أغلبنا يحصل عليها إلا بعد مرور شهور من العمل المجاني، خاصة وأن طلاب قسم الصحافة مدربون بالفعل على العمل الصحفي بحكم دراستهم أو على الأقل لديهم الإلمام النظري الذي يؤهلهم للحصول على خبرات عملية أسرع من غيرهم.

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. صحفي الشنطة .. هذا ما فعلته بنا مكاتب الصحف العربية !

ولكن بمجرد أن يحصل كل من على مؤهله الجامعي وتظهر لديه نوايا جادة في طلب حقه في التعيين، حتى يختلق القائمون على هذه المؤسسات أعذاراً مثل أن المؤسسة تخسر أو أن هناك أزمة مالية طارئة تستدعي تخفيف أعداد الصحفيين المتدربين أو أي عذر آخر. وفي بعض الحالات، يكون الصحفي المتدرب بين خيارين صعبين: إما أن يظل يعمل لسنوات عديدة من أجمل سنوات شبابه مجاناً أو مقابل مبلغ زهيد حتى يأتي دوره في التعيين الذي قد يتأخر لسنوات، وإما أن يغادر المؤسسة ليبحث عن مصدر رزق يعيش منه بعد أن خرج من فترة الدراسة الجامعية وأصبح ملزماً أمام أسرته بأن ينفق على نفسه على الأقل. إن مرتب الصحفي حتي في الدول الأكثر فقرا من مصر أعلى بكثير من مرتب الصحفي المصري، ومع الأسف فإن هذه الحقيقة لا تقتصر على فترة تاريخية بعينها بل أني كشاهد لا أزال على قيد الحياة أرى أن الصحفي في مصر يعاني دوما من ضعف الأجر، ولا أرى حلا لهذا الوضع في المستقبل المنظور

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً