في زمنٍ يتسارع فيه الإيقاع وتُختزل فيه القيم في شعارات سريعة، تبدو العلاقة بين الحداثة والتراث وكأنها معركة صفرية: إمّا قطيعة كاملة مع الماضي، أو انغلاق دفاعي يرفض الحاضر. غير أن هذا التصور الثنائي يخفي سؤالًا أعمق وأكثر إلحاحًا: هل النهضة تُبنى بالهدم أم بالإصلاح؟ وهل الحداثة قدرٌ لا يُقاوَم، أم أداة يمكن تطويعها ضمن منظومة قيمية حيّة؟
الزمن في حقيقته رحلة، والسفر أحد وجوهها. لكن قيمة الرحلة لا تُقاس بطول المسافة ولا بعدد المحطات، بل بسلامة البوصلة الداخلية. حين يمتلك الإنسان أصلًا متينًا ومنظومة داخلية متوازنة، يصبح السفر اكتشافًا وتوسّعًا. أمّا حين يتحوّل إلى هروب أو تعويض أو تشتيت، يفقد معناه ويغدو علامة فراغ لا حركة. الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات: الحداثة لا تكون تقدمًا إلا إذا جاءت امتدادًا لمنظومة أخلاقية حيّة، لا قطيعة معها.
نشأت الحداثة الغربية كثورة شاملة على التراث، لا كمشروع إصلاحي داخلي. كانت في جوهرها ردّ فعل عنيفًا على هيمنة الكنيسة وتحالفها التاريخي مع السلطة، وما نتج عن ذلك من قمع معرفي وأخلاقي. ومن هنا حملت الحداثة في بنيتها الأولى طابع الثورة الغاضبة، لا الفعل الرشيد المتدرّج.
والثورة، بطبيعتها، فعل اندفاعي. قد تُسقط نظامًا، لكنها نادرًا ما تُقيم بديلًا متوازنًا. التاريخ يعلّمنا أن الثورات تُنتج دائمًا غضبًا مضادًا وصراعات ممتدة، بينما يملك الإصلاح قدرة أعلى على الاستمرارية؛ لأنه يقوم على التراكم وإعادة البناء من الداخل، لا على القطيعة الشاملة.
لم تكن الحداثة مجرد تطور علمي أو تقني، بل اقترنت منذ نشأتها باستعمار دموي ورأسمالية شرسة. هذا الارتباط لم يكن عرضيًا، بل شكّل جزءًا من بنيتها العميقة، وأورثها عطبًا أخلاقيًا بنيويًا. فالعقل الذي اختزل العالم إلى منجم يُنهب، والإنسان إلى منتِج ومستهلك، والطبيعة إلى مادة للاستنزاف، هو نفسه العقل الذي برّر الاستعمار باسم “التقدم” و“التمدين”. هكذا نشأ التناقض المركزي: تقدم مادي هائل يقابله فراغ قيمي متزايد.
التجربة المصرية: حداثة بلا قطيعة
بدأت علاقة مصر بالحداثة مع مشروع محمد علي، وتجلّت معالم التحديث في كل تقنية منقولة من أوروبا، وكل مهندس أجنبي استُقدم لبناء منشأة أو قنطرة، ومع حفر قناة السويس التي مثّلت، في آنٍ واحد، ذروة التحديث وقاع الاستعمار. كانت القناة شاهدًا على حداثة ملطّخة بالقهر ودماء الإنسان البسيط الذي استُخدم كترس في آلة جهنمية تسحق بلا رحمة لصالح أمجاد ومكاسب آخرين.
ومع ذلك، لم تكن علاقة مصر بالحداثة في بدايات القرن العشرين بالغة السوء. فعلى الرغم من الاحتلال، امتلك المصريون قدرة لافتة على استيعاب أدوات الحداثة دون الذوبان فيها. لم تُستقبل التكنولوجيا بوصفها بديلًا عن التراث، بل كوسيط جديد للتعبير عنه.
الجرامافون، مثلًا، لم يُحوّل الموسيقى إلى سلعة بلا روح، بل أصبح وسيلة لحفظ صوت أم كلثوم، حاملة الذاكرة الغنائية والوجدانية للمجتمع. والمطبعة لم تكن أداة لطمس المخطوطات، بل جسرًا لنشر كتب التراث وإعادة إحيائها. حتى السينما، في مراحلها الأولى، جاءت امتدادًا للسرد الشعبي والقيم الاجتماعية، لا قطيعة معها.
الاحتلال لم يكن سببًا للنهضة، بل عائقًا لها. غير أن المصريين نجحوا، رغم وجوده، في توظيف الأدوات الحديثة لخدمة مشروعهم الثقافي. أي أن الحداثة في السياق المصري لم تكن فعل هدم، بل محاولة ترويض.
التفاوض مع الحداثة حتى الستينيات
من السهل ملاحظة أن المصريين، حتى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، كانوا قادرين على تحقيق معادلة دقيقة بين التمسك بالأصالة والهوية من جهة، والانخراط في مسار التحديث من جهة أخرى. لم يكن التحديث آنذاك يُنظر إليه بوصفه أيديولوجية شاملة أو بديلًا ثقافيًا، بل باعتباره مجموعة أدوات تُستخدم لتحسين شروط الحياة وتنظيم المجتمع، دون أن تمسّ جوهر المنظومة القيمية أو الذاكرة التاريخية.
في هذه المرحلة، ظلّت الدولة الوطنية في طور التشكّل، وكان المجال العام يسمح بوجود طبقة وسطى فاعلة ثقافيًا، قادرة على إعادة صياغة الوافد الحديث داخل أطر محلية. التعليم الحديث لم يُلغِ المرجعيات الثقافية، بل تداخل معها، ما مكّن المجتمع من التعامل مع الحداثة كمسار يمكن التفاوض حوله وتطويعه لخدمة مصالحه الاجتماعية والثقافية.
تحديات السبعينيات: نزيف العقول والانفتاح
شهدت مصر في السبعينيات ما يمكن تسميته بـ«شِدّة السبعينيات» أو لحظة الاختلال الكبرى، حين تعرّض المجتمع لتأثيرين متزامنين وقاسيين في آن واحد: تأثير قادم من الشرق، وآخر وافد من الغرب، وكان كلاهما بالغ القسوة والتحدي.
من جهة الشرق، جاءت موجة التأثير المرتبطة بدول الخليج والعراق وليبيا، وهي دول دخلت مسار التحديث متأخرة نسبيًا، ثم سعت إلى تعويض هذا التأخر بوتيرة متسارعة بعد اكتشاف النفط. ولأن هذه المجتمعات لم تمتلك حينها رصيدًا كافيًا من الكوادر التعليمية والمهنية، اعتمدت بشكل واسع على الخبرة المصرية. كان لدى مصر، بالفعل، خزان هائل من الكفاءات الحديثة: أساتذة جامعات، أطباء، مهندسون، معماريون، ومعلّمون، تشكّلوا داخل مشروع تحديث وطني طويل.
غير أن هذه الهجرة الكثيفة لم تكن بلا ثمن. فقد عانت مصر من نزيف حقيقي للعقول، ليس فقط على مستوى العدد، بل على مستوى الدور التاريخي لهذه الفئات بوصفها حاملة للتوازن بين الأصالة والتحديث. بخروجها، اختلّ الوسط الاجتماعي الذي كان يعمل كوسيط ثقافي ومعرفي، وتراجعت قدرة المجتمع على إعادة إنتاج حداثته من الداخل.
وفي المقابل، لم يعد العائدون من الخليج يعودون فقط بخبرات مهنية، بل عادوا أيضًا بأنماط اجتماعية وقيم استهلاكية ورؤى ثقافية مختلفة، أعادت تشكيل البنية الاجتماعية داخل مصر. تغيّرت أنماط العيش، والعلاقات الأسرية، ونظرة المجتمع للعمل والنجاح، في اتجاهات لم تكن امتدادًا طبيعيًا لمسار التحديث المصري، بل قطيعة معه.
أما التأثير الغربي، فجاء عبر اقتصاد السوق المفتوح، وتحول الحداثة إلى نموذج استهلاكي شامل، لا إلى مشروع اجتماعي أو أخلاقي. وهكذا وجد المجتمع نفسه محاصرًا تيارين حداثة شرقية ريعية تفتقر إلى الجذور المؤسسية، وحداثة غربية رأسمالية تختزل الإنسان في الاستهلاك والربح.
في هذا السياق، لم تعد الحداثة أداة قابلة للتفاوض، بل تحوّلت إلى قوة ضاغطة من اتجاهين، أسهمت في تفكيك المنظومة الداخلية التي حافظت، لعقود، على التوازن بين الهوية والتغيير. هذا ما يجعل السبعينيات لحظة مفصلية، لا مجرد مرحلة انتقال، بل نقطة انكسار للهوية المصرية بروافدها التي لا تنضب في مسار تشتيت ما زالت آثاره ممتدة حتى اليوم.
وتفاقم هذا التحول مع التدفق الكثيف للتأثير الأمريكي، الذي لم يأتِ كنموذج اقتصادي فحسب، بل كمنظومة ثقافية مكتملة مدعومة بآلة دعائية وتسويقية قوية. استخدمت وسائل الإعلام، الإعلان، وتقنيات علم النفس وعلم الاجتماع بفعالية لإقناع الفرد بشراء ما لا يحتاجه، والرغبة فيما لم يكن يومًا جزءًا من تصوراته عن الحياة الجيدة. وهكذا تحوّل المواطن تدريجيًا من فاعل يتفاوض مع الحداثة إلى مستهلك يُساق داخلها.
وهم الهدم مقابل إمكان الإصلاح
تقوم فكرة الهدم على افتراض مغلوط: أن الماضي كتلة واحدة من الخطأ، وأن الخلاص لا يكون إلا بإزالته. لكن التاريخ لا يعمل بهذه الطريقة. المجتمعات التي هدمت ذاكرتها لم تُنتج مستقبلًا، بل أعادت إنتاج الفراغ. الهدم لا يخلق معنى، بل يخلق مساحة خالية سرعان ما تملؤها قوى السوق أو السلطة أو الأيديولوجيا.
الإصلاح، على النقيض، فعل شاق، لكنه ممكن. يتطلب التمييز: ما الذي يُحفظ، وما الذي يُراجع، وما الذي يُطوَّر. لا يقدّس الماضي، لكنه لا يشطبه. يقرأه بوصفه خبرة متراكمة يمكن توظيفها في الحاضر والمستقبل.
في السياق المصري، يعني الإصلاح استعادة العلاقة العضوية بين القيم والعمل، بين المعرفة والحياة. يعني تعليمًا لا يفصل العقل عن الأخلاق، واقتصادًا لا يختزل الإنسان إلى رقم، وثقافة لا تستنسخ الآخر ولا تنغلق دونه. يعني إعادة التفاوض مع الحداثة بدل الانصياع الأعمى لها، وإعادة النظر في العلاقة مع التراث بوصفه رافعة للمستقبل لا عبئًا يعيق التقدم.
فليست المسألة صراعًا بين قديم وجديد، بل بين معنى وفراغ. التراث، حين يُفهم بوصفه طاقة أخلاقية ومعرفية، يصبح رافعة للمستقبل. والحداثة، حين تُروَّض داخل منظومة قيمية، تصبح أداة للتحرر لا للاستلاب.
النهضة لا تُبنى بالهدم، بل بالإصلاح، بالإصغاء العميق للتاريخ دون الخضوع له، وبالانفتاح على العالم دون الذوبان فيه. بين وهم القطيعة وإمكان الإصلاح، يقف الخيار الحقيقي: إمّا حداثة بلا روح، أو تحديث يستند إلى ذاكرة حيّة ويصنع مستقبلًا قابلًا للحياة.