ads
ads

محمد مختار يكتب لكم من مقهى سولافة مع صديقي محمد الحكيم. .. الحديث الشائك عن مصالحة لا مفر منها

محمد مختار
محمد مختار

دخل محمد الحكيم إلى مقهى سولافة، وكأن خطواته الثقيلة تحمل معه ثقل الأحداث والهموم. كان المكان يعج برائحة البن المحمص والبهارات الخفيفة، وألوان الجدران الدافئة تنعكس على وجوه الرواد، كأن المكان يحتفظ بنسمة من الماضي ودفء من الحاضر. جلس بجانبي في الزاوية المعتادة، ألقى عليّ تحية خفيفة ثم جلس دون أن ينتظر، فطلبت له الشاي الذي اعتاد على شربه من يد سولافة، السيدة السودانية التي تدير المقهى ببساطة وعينين تراها دائمًا حاضرة في كل تفصيل صغير، كأنها روح المكان التي لا تغادره.

لم تمضِ لحظات حتى دخلت سولافة وهي تحمل صينية عليها فنجان قهوتي المعتاد، وشاي لمحمد الحكيم، مع طبق من الفيشار الذي يفضل تناوله أثناء أحاديثه الطويلة. وضعت الصواني أمامنا بابتسامة هادئة، ثم عادت لتتابع مهامها بين الطاولات، تتنقل بخفة بين الزبائن وكأنها عازفة موسيقى تضبط إيقاع المكان بصمتٍ محبب.

بدأ محمد الحكيم الحديث من حيث توقفنا أمس، وكانت كلماته ثقيلة، تعكس انقسامًا عميقًا في داخله. موضوعه اليوم كان شائكًا وحادًا: المصالحة بين الخصوم في كل مجتمع. لم يمهله شيء، وانطلق قائلاً بصوت عميق ومرتفع أحيانًا: "أنا أرفض المصالحة بكل قوة وعناد. كيف يمكن أن نتصالح مع من اختاروا السرية في كل أعمالهم العامة، مع من يخترقون الثقة ويخفون أهدافهم الحقيقية عن الجميع؟ المصالحة معهم مستحيلة!"

ابتسمت له بحذر، محاولًا فتح نافذة للحوار، وسألته: "وفي ظنك، ما هو البديل؟ هل الأفضل أن تبقى المجتمعات في حالة صراع دائم واستقطاب، أم أن نسعى نحو بعض أشكال التفاهم؟"

ابتسم بسخرية خافتة وقال: "أنت لا تعرف هؤلاء! إنهم يعتمدون السرية في كل شيء، حتى أهدافهم الحقيقية سرية لا يعرفها أحد. هل يمكن أن نحاور من يختبئ خلف أقنعة الظلام؟"

قلت له بصوت هادئ، محاولًا مد جسر من الفهم: "لكن بر المصالحة المجتمعية هو أحد الأسس الرئيسية لبناء مجتمع قوي ومترابط. المصالحة ليست تنازلاً عن الحق، بل هي عملية شاملة تهدف لإعادة بناء العلاقات وتعزيز السلم الاجتماعي. إنها تعكس السعي نحو مجتمع يسوده السلام والتفاهم وتقوية الروابط بين أفراده."

جلس محمد الحكيم يحدق في الشاي، كأنه يحاول أن يرى ما وراء السطح، وقلت له: "المصالحة المجتمعية تعزز السلم الاجتماعي، وتخفف التوترات والصراعات، وتعمل على إعادة بناء الثقة بين الفرقاء المختلفين. إنها تعزز التضامن الاجتماعي، وتساعد على جبر الضرر وإعادة الحقوق لأصحابها، كما تسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يمكن لبيئة مستقرة أن تجذب الاستثمارات وتحسن جودة الحياة للجميع."

رفعت كوب الشاي إلى شفتي، وأردفت: "إن عملية المصالحة تعتمد على الحوار المفتوح والصريح، على التسامح والغفران، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان توزيع الفرص والثروات بشكل عادل. كما أنها تحتاج للتعليم والتوعية، لترسيخ ثقافة التسامح والتعايش السلمي، ويجب أن تكون المساواة وحقوق الإنسان في صلب جهودها، لضمان احترام حقوق الجميع دون تمييز."

ظل محمد الحكيم صامتًا لبرهة طويلة، كأن صدى كلماتي استقر في المكان، يعيد تشكيل الهواء من حولنا. كان صوته يحمل مزيجًا من الإصرار والريبة حين رفع رأسه أخيرًا وقال: "أفهم ما تقول، لكن هؤلاء مختلفون. هم لا يؤمنون بالعلانية ولا بالشفافية، كل تحركاتهم سرية وكل أهدافهم مخفية."

توقف للحظة، وعيناه تتفحصان وجهي كما لو كان يبحث عن إجابة قبل أن يواصل: "كيف يمكن أن نحقق المصالحة مع من لا نعرف حتى ما يريدون بالضبط؟" كانت كلماته كحجر يرمي في مياه هادئة، يثير تموجات من الشك والتردد.

ابتسمت بهدوء، محاولًا أن أجعل له الضوء في تلك الظلمة الصغيرة التي صنعها الخوف من الغموض. قلت له: "ربما يكون الطريق صعبًا، وربما يكون المخاطرة كبيرة، لكن المصالحة ليست مجرد معرفة كل شيء مسبقًا، بل هي استعداد لبناء جسر مع الآخرين حتى ولو لم نعرف كل خبايا نواياهم. إنها ليست عن السيطرة أو الكشف الكامل، بل عن إتاحة الفرصة لإعادة التواصل والثقة تدريجيًا."

جلسنا صامتين للحظة، بينما الرياح الخفيفة من الشارع تهب عبر أبواب المقهى، وحركة فناجين الشاي والقهوة تعكس الحياة البسيطة التي لا تكاد تلاحظها أعين هؤلاء الذين يعيشون في الظل. بدا محمد الحكيم مترددًا، وكأن كلماتي زرعت بذرة صغيرة من سؤال داخلي: هل يمكن أن يكون هناك جسر حتى مع من يرفضون أن يرفعوا الستار عن نواياهم؟

كانت هذه لحظة صمت ثقيل، لكنها مليئة بالمعنى، لحظة تذكير بأن الطريق إلى المصالحة المجتمعية لا يمر دائمًا عبر اليقين الكامل، بل عبر الصبر والبحث عن نقاط التقاء، حتى في أكثر الأماكن سرية وتعقيدًا.

ابتسمت له بخفة، وكأنني أرى في صمته مؤشراً صغيرًا على بوادر إدراك: "حتى لو كانت السرية جزءًا من أسلوبهم، فإن فتح المجال العام والعمل بشفافية يمكن أن يكشف المخاطر ويضع أسسًا للتفاهم. المصالحة المجتمعية ليست مجرد كلمات، بل عملية تتطلب صبرًا وجهدًا مستمرًا. إنها الطريق لبناء مجتمع مترابط، مجتمع لا ينهار عند أول خلاف، بل يستند إلى الحوار والثقة والتسامح."

جلسنا صامتين قليلًا، تخلل الصمت صوت رنين فناجين القهوة وهي توضع على الطاولات الأخرى، وصوت سولافة وهي تمر بين الطاولات تبتسم وتطمئن على الزبائن. شعرت في تلك اللحظة أن المكان نفسه يشاركنا الحوار، وأن مقهى سولافة أصبح شاهدًا على نقاش بين صوت العقل ورنين الواقع.

دخلت الكلمات إلى أذن محمد الحكيم كهمس يقطر من جدار المقهى، ممتزجًا برائحة القهوة التي تملأ المكان، وبصوت فناجين سولافة وهي تُحرك على الصواني برفق. قلت له بصوت منخفض، كأنني أخاطب صدى الجدران: "المصالحة المجتمعية ليست مهمة سهلة، لكنها الطريق لبناء مجتمع قوي ومترابط ومزدهر."

رفع رأسه ببطء، عيناه تتأملانني، وفي لحظة صمت قصير، بدا وكأن الزمن توقف، والمكان كله أصبح شاهداً على كلمات تتسلل بين الطاولات والمقاعد. تابعت، وصوتي يخترق الهمس، "إنها طريق طويل، ليس مفروشًا بالورود، لكنه يستحق كل جهد. لأنه ليس مجرد حل خلافات، بل بناء مستقبل أفضل وأكثر استدامة."

أضفت، وأنا أراقب حركات يديه وهو يلعب بكوب الشاي: "مستقبل يُجبر فيه الخواطر، تُصلح فيه الأضرار، ويعم فيه السلام بين الناس مهما اختلفت طرقهم وأهدافهم."

ابتسمت سولافة من بعيد، وكأنها تلمس الخيط الخفي بين الكلمات والأرواح، بين صمت المكان وهمس الحوار. كانت تعرف، بلا قول، أن هذا النقاش بيني وبين محمد الحكيم لم يكن مجرد تبادل آراء، بل انعكاس لكل ما يعتمل في المجتمع من صراعات، من تباين في الرؤى، من صراعات داخلية تحاول أن تجد طريقها نحو التفاهم.

الرائحة الثقيلة للقهوة، المتصاعدة من فناجين سولافة، كانت تحمل دفء المكان وروح الحياة اليومية، وكأنها تهدي الحضور شعورًا بالاستقرار وسط زوبعة الكلام. وصوت الشارع البعيد، مرور السيارات وهمس المارة، وضحكات الزبائن الآخرين، كل ذلك شكّل خلفية صامتة، موسيقى غير مرئية لمشهد يتجاوز حدود المقهى إلى ما هو أبعد، إلى المجتمع كله.

كان هذا كله يذكّرني بأن البناء الحقيقي للمجتمع لا يقوم على القوة أو الإكراه، بل على الصبر والإرادة، على القدرة على الاستماع والاحترام، على استعداد الفرد للبحث عن نقاط التقاء حتى مع من يبدو أنه يرفض الفهم. الفهم والتسامح، كما شعرت في تلك اللحظة، هما اللبنات الصامتة التي تبني صرح المجتمع، لبنات لا تراها العين، لكنها تخلق الأساس الذي يمكن للثقة والعلاقات أن تستقر عليه.

في تلك اللحظة، بدا لي أن الحوار ليس مجرد كلام بين شخصين، بل تجربة عملية مصغرة للمصالحة التي لا مفر منها والتي يحتاجها كل مجتمع، عملية تبدأ بصمت، تكتسب دفئها من تفاعل الناس، وتكتمل بوعي وإرادة الجماعة في البحث عن ما يوحدهم، لا ما يفرقهم. سولافة، بابتسامتها الصامتة، كانت شاهدًا على ذلك، حارسة صامتة لأمل ربما يكون خفيًا لكنه حي، كقهوة ساخنة في فنجان عادي، تحمل دفء أكبر من مجرد مذاقها.

محمد الحكيم لم يرد فورًا، لكنه نظر إلى المكان بعينين مشبعتين بالدهشة، وربما بالاعتراف، وكأن كلماتي قد فتحت نافذة صغيرة في قلوب المواقف الصلبة. لم يكن الحديث مجرد نقاش، بل كان لحظة صمت تتخللها القدرة على رؤية أن المصالحة ليست تنازلاً، بل جسرًا يمتد فوق صراعات الماضي ليصل بالمجتمع إلى بر الأمان، بر الأمان الذي يُصنع بالإرادة والصبر والحكمة.

وفي هدوء مقهى سولافة، حيث تتشابك رائحة القهوة مع همس الحوارات، وصوت الخطوات البعيدة يطرق على أرضية الخشب، شعرت أن الكلمات التي تبادلناها قد استقرت في الهواء، كأنها ترفرف بين الجدران وتبحث عن مسامع صامتة. كانت تحوي رسالة أعمق من مجرد كلام، رسالة تقول إن المصالحة ليست خيارًا يُعرض على الطاولة، بل واجب إنساني يفرض نفسه على كل فرد يسعى إلى مجتمع يحفظ الحق ويصلح الباطل، مجتمع يعيد بناء الروابط الممزقة ويخلق أرضًا خصبة للسلام.

كانت لحظة صمت، ولكنها صمت ملؤه حضور المعنى، حيث كل شيء حولنا—ضحكات الزبائن، حفيف الأوراق، هدير السيارات في الخارج—يبدو كأنه يشارك في تأكيد هذه الحقيقة، أن الطريق إلى السلم الاجتماعي طويل، وأنه يحتاج إلى الصبر والإرادة والإيمان بأن فهم الآخر والتسامح معه هما ما يجعل المجتمع قوياً ومتماسكاً، مهما تباعدت الطرق واختلفت الأهداف.

وفي هذا الصمت، بدا لي أن مقهى سولافة لم يكن مجرد مكان للقاء، بل مساحة تتسع للفكر، حيث الكلمات تتحول إلى بذور، والبذور تنمو في نفوس الحاضرين، فتثمر إدراكًا بأن المصالحة المجتمعية ليست مجرد حوار، بل فعل حي يلامس حياة الجميع، ويؤسس لمستقبل يُحترم فيه الإنسان، وتُصلح فيه الأخطاء، ويعم فيه السلام بين الناس.

ابتسم محمد الحكيم أخيرًا، وشرب الشاي في صمت، ولكن صمت من يتمسك بموقفه بعناد غير مفهوم بالنسبة لي على الأقل بينما كانت رائحة البن والقهوة تتسلل في المكان، تعبق بين الجدران الخشبية وتلتصق بالهواء كأنها حضن دافئ، بدا مقهى سولافة أكثر من مجرد مقهى؛ كان مساحة تمنح الحوار أفقه، ومكانًا للتأمل في مجتمع ينهض من جراحه وأحزانه، مجتمع يحلم بالتفاهم رغم كل الاختلافات والجروح العميقة.

كان في الجو شيء من السحر البسيط، شيء يجعل الحوارات الثقيلة أخف، ويمنح الفكر مساحة للتساؤل والتأمل. كأن القهوة نفسها تتحول إلى رمز للهدوء والحكمة، وتدعو كل من يجلس هنا للتفكير في السلام الأبدي، السلام الذي لا يحتاج إلى اتفاقيات مكتوبة، بل إلى إرادة صافية ونوايا صادقة.

وفي هذا الصمت المشبع برائحة البن، شعرت أن لحظة القهوة وحدها قادرة على تهدئة النزاعات الداخلية، على فتح مساحات جديدة للفهم بين القلوب، وتحريك الفكر نحو رؤية أكثر سلامًا وانسجامًا، رؤية تجعل المجتمع يتعلم كيف يكون أكثر حكمة وهدوءً، وكيف يربط بين أفراده خيوط التفاهم والاحترام المتبادل، مهما تباعدت الطرق واختلفت الأهداف .

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً