بكل ما تبقى لديّ من إحساس بالمسؤولية تجاه هذه المهنة التي عاش جيلي بها ولها فقطـ أجد نفسي قريبًا من زملائنا في البوابة نيوز والفجر، لا بصفة المتفرج ، بل شريكًا في الهمّ والقلق والمصير. قد لا أملك القدرة على تقديم عون مباشر، ولا أزعم أن بيدي حلولًا سحرية لأزمة معقدة، لكنني أؤمن – عن تجربة لا عن تنظير – أن الكلمة الصادقة في لحظات الشدة قد تكون أصدق وأبقى من أي دعم عابر.
فالصحافة، حين تمر بالأزمات، لا تحتاج فقط إلى من يطفئ الحريق، بل إلى من يسأل: كيف اشتعل؟ ولماذا تركناه يتمدد؟ والنصيحة هنا ليست ترفًا فكريًا ولا رفاهية أخلاقية، بل محاولة أخيرة لأن نرى الصورة كاملة قبل أن نكتشف، متأخرين، أننا كنا نعالج العرض ونتجاهل المرض.
ومع كامل التقدير لما يقوم به مجلس نقابة الصحفيين من جهد واضح في إدارة هذه الأزمة، ومحاولاته الجادة لمساندة الزملاء والحد من تداعيات الموقف، فإن الخطأ الحقيقي يكمن في النظر إلى ما يجري باعتباره أزمة إغلاق صحيفة أو تعثر إصدار. هذا تبسيط مخلّ لواقع أكثر تعقيدًا. فالمسألة لا تتعلق بورق توقف عن الصدور، ولا باسم خرج من الأكشاك، بل بأزمة أعمق تمس جوهر المهنة نفسها، وتضع مستقبلها كله موضع سؤال. إن ما نواجهه اليوم ليس عارضًا طارئًا، بل إنذارًا مبكرًا بخطر أكبر إذا أصررنا على تجاهله أو التعامل معه بعقلية الأمس
نحن لا نواجه أزمة صحيفة، بل أزمة مهنة.
فالجمعية العمومية لنقابة الصحفيين ما زالت، حتى اللحظة، أسيرة تصور قديم يرى أن الصحافة لا تكون إلا على الورق، وأن العضوية لا تُمنح إلا لمن يكتب في صحيفة مطبوعة، وكأن الزمن توقف عند لحظة بعينها ولم يمضِ بعدها خطوة واحدة. وهي رؤية تتجاهل – أو ربما ترفض الاعتراف – بحقيقة واضحة لا تحتاج إلى كثير عناء لإثباتها: أن الصحيفة الورقية لم تعد وسيطًا حيًا في وجدان الناس ولا في ممارساتهم اليومية.
والحقيقة المؤلمة التي نميل إلى دفنها تحت طبقات من الإنكار أن اختفاء الصحافة الورقية لم يعد احتمالًا نظريًا يُناقش في الندوات، بل مسارًا حتميًا يسير أمام أعيننا في صمت وثبات. الورق لا يحتضر فجأة، لكنه يتراجع خطوة بعد خطوة، بينما نظل نحن متمسكين به كأنه طوق نجاة، في حين أن الوسيط الورقي لم يعد قادرًا على حمل المهنة ولا حمايتها.
كل الصحف الورقية، بلا استثناء حقيقي، ماضية إلى الاختفاء، عاجلًا أو آجلًا، مهما طال العمر أو قصر. وما نراه اليوم من أزمات متفرقة ليس سوى مقدمات لما هو آتٍ لا محالة. ستتكرر أزمات البوابة والفجر، لا في صحيفتين أو ثلاث، بل في عشرات الإصدارات التي ستسقط واحدًا بعد الآخر، بنفس الدهشة ونفس الإنكار.
والسؤال الذي نؤجل مواجهته، ونتعمد الهروب منه، هو السؤال الأهم: ماذا سنفعل حين يصبح هذا الواقع عامًا لا استثناء فيه؟ هل سنكتفي بإدارة الأزمات واحدة تلو الأخرى، أم سنفكر أخيرًا في إنقاذ المهنة قبل أن تختفي الصحف ويبقى الفراغ؟
نحن جيل تربّى على عشق الصحيفة الورقية، لا بوصفها سلعة، بل كطقس يومي له رائحته وذاكرته. عرفنا الحبر وهو يترك أثره على أصابعنا وملابسنا، والورق الأصفر وهو يطوى تحت أذرعنا في الصباح الباكر. كنا ننتظر عدد الصباح بشغف، بل ونسهر في الميادين لاقتناء الطبعات الأولى في منتصف الليل، قبل أن يطلع النهار وقبل أن تبرد الأخبار.
أما أبناؤنا، فلم يشتروا صحيفة ورقية واحدة، ولم يفتحوا مجلة مطبوعة، لا تمردًا ولا قطيعة مع الماضي، بل لأن الزمن نفسه تجاوز هذا الوسيط. لم يعد الورق جزءًا من إيقاع حياتهم ولا من أدوات معرفتهم. وما نراه اليوم من إصدارات ورقية قائمة هو في حقيقته مرحلة انتقالية أخيرة، تحاول تأجيل النهاية أكثر مما تصنع مستقبلًا، قبل أفول كامل بات أقرب مما نتصور.
أدعو كل من يقرأ هذه السطور من أعضاء الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين إلى أن يجري تجربة صغيرة، لكنها كاشفة إلى حد الصدمة: اسألوا مجموعة من الشباب، بل وحتى من كبار السن، سؤالًا بسيطًا ومباشرًا لا يحتمل التأويل:
هل يعرف أحدكم اسم رئيس تحرير أكبر وأقدم صحيفة ورقية في مصر؟
لن يحتاج الأمر إلى كثير من الشرح أو الجدل. الإجابة، في الغالب، ستأتي مرتبكة أو غائبة تمامًا، لا لأن الناس فقدوا احترامهم للصحافة، بل لأن الصحافة الورقية نفسها خرجت من مركز الوعي العام، وتراجعت من موقع التأثير إلى هامش الذاكرة.
لقد سألت هذا السؤال بنفسي، وكانت الإجابة – أو بالأحرى غيابها – صادمة.
نحن جيل نشأنا على حفظ أسماء رؤساء التحرير ومواقفهم السياسية والفكرية، سواء في الصحف القومية أو الحزبية، وكأنها جزء من وعينا اليومي. كانت أسماء مثل أنيس منصور، أحمد بهجت، محمود السعدني، مصطفى شردي، عادل حسين وغيرهم والقائمة تطول بشكل لا يمكن حصره في مقال واحد، تملأ السمع والبصر، وتصبح حديث الشارع والمقهى والمنزل. وإذا صادفنا واحدًا منهم في مكان عام، كنا نلتف حوله متحمسين، نطلب توقيعه أو حتى مصافحته، ليس فقط كشخص، بل كرمز عام وصوت مؤثر شكّل جزءًا من ثقافتنا اليومية وتجربتنا الصحفية.
أما اليوم، فهل يعرف الجيل الحالي اسم كاتب رأي واحد في أشهر وأقدم الصحف المصرية؟
نظرة سريعة إلى أكشاك الصحف القديمة تكشف الحقيقة بلا حاجة إلى كلمات كثيرة: هذه الأكشاك التي كانت تعبق برائحة الورق والحبر، وتحمل أخبار اليوم بين أيدينا، تحولت اليوم إلى منافذ لبيع السجائر والحلوى، وشحن الهواتف، وتسديد الفواتير الإلكترونية. كل ذلك يؤكد أن الوسيط الورقي لم يعد جزءًا حيًا من نسيج المجتمع، حتى وإن بقي ظاهرًا على الرفوف، كرمز شكلي بلا حضور حقيقي في حياة الناس اليومية.
ورغم كل هذه التحولات، ما زلنا عالقين في المربع الأول، نناقش أحقية محرري المواقع الإلكترونية في عضوية نقابة الصحفيين، وكأننا نخوض معركة الأمس، بينما الحرب الحقيقية تدور في زمن آخر، زمن تغيّر فيه كل شيء حولنا، وزمن اختفى فيه الوسيط التقليدي، ولم يعد للحجج القديمة أي صدى عملي أمام واقع جديد يتشكل بسرعة لا تتوقف.
والمفارقة المؤلمة أن المواقع الإلكترونية نفسها ليست نهاية المطاف، بل محطة عابرة على طريق التحولات الكبرى. فهي أيضًا تسير نحو التراجع، وربما الاندثار، في المسار نفسه الذي سلكته الصحف الورقية. ومع ذلك، لا تزال الجمعية العمومية متمسكة برفض استيعاب محرريها، كأنها تحاول تثبيت الماضي في وجه حاضر يرحل بسرعة ويستحيل الإمساك به.
فماذا ستفعل النقابة عندما تصبح المواقع الإلكترونية بدورها شيئًا من الماضي؟
وماذا سيكون موقفنا حين تظهر وسائط جديدة لا نعرف شكلها ولا قواعدها بعد؟
المفارقة الأكبر أننا عاجزون عن التعامل مع الواقع الحالي، نراوح مكاننا وسط التحولات، ثم نتساءل ببراءة – أو ربما بجهل مقصود – كيف سنواجه المستقبل، وكأن الزمن يمكن أن ينتظرنا لنلحق به بعد فوات الأوان.
وما سيحدث – على الأرجح أسرع مما نتوقع – هو أن صحافة الموبايل ستصبح الشكل الغالب، وربما الوحيد، لممارسة المهنة. صحافة سريعة، متدفقة، لحظية، ترتبط مباشرة بمهارات الصحفيين الجدد وقدرتهم على التفاعل مع الحدث فور وقوعه. وستظل كذلك حتى يظهر وسيط جديد، لم نعرفه بعد، يحمل سمات شخصية مختلفة تمامًا، ويكسر القوالب التقليدية، فلا يعترف بالحدود القديمة بين الكاتب والمؤسسة، بل يجعل العملية الصحفية تجربة مرنة ومتجددة ومتصلة مباشرة بالجمهور.
والسؤال الذي لا يحتمل التأجيل:
هل نريد نقابة تحمي المهنة أم تحرس الوسيط؟
لأن من يصر على حماية الوسيط فقط، دون النظر إلى الجوهر والمهنة نفسها، سيجد نفسه في النهاية يدفن رأسه في الرمال، غير مدرك أن كل شيء من حوله ينهار ويختفي، وأن الزمن لن ينتظر أحدًا ليحافظ على رموز لم تعد صالحة للبقاء.