لن أحدثكم عن ممالك الديناصورات التي فشلت في مقاومة واقعها قبل 230 مليون سنة، ولا عن عشرات السنوات التي كانت كفيلة بمحو ظواهر عديدة؛ كساع البريد وشرائط الفيديو والكاسيت، حتى أن مطبعة اكسفورد العالمية الشهيرة، أعلنت قبل سنوات أن الإصدار الأخير من قاموس أكسفورد لن يُطبع مجدداً بعد مرور أكثر من عقدين على رواجه.
بل أنعي إليكم إرادة ذلك القارئ العظيم، الباحث عن المرجعية، والمدقق لكل التفاصيل، المثقف الموسوعة الذي يستطيع أن يروي لك فصولا من أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، أو دعاء الكروان لطه حسين ـ على سبيل المثال ـ وأنت تحتسي فنجاناً من القهوة، ويحدثك عن صحيح العقائد والعبادات بعيداً عن "العنعنة".
أنعي إليكم ذلك المثقف الذي ينفق على غذاء عقله، وينتظر بائع الصحف في كل صباح، فتفتح شهيته ملاحق الثقافة والأدب في صحيفة الأهرام العريقة ومثيلاتها، وقد صارت صفحات الإعلانات المبوبة والوفيات أكثر رواجاً وإغراءً.
أنعي إليكم بائع الصحف ـ محتل الرصيف ـ الذي هجرها بعد أن مضى عليه عهد غزا فيه نواصي الميادين والأزقة والحارات، وفاقت شعبيته حينها شعبية بائع الخبز لسنوات طويلة، اليوم بات الاستمرار في نشاطه درباً من الإفلاس .
ماذا عن البديل؟ حتى مع الانتقال إلى عالم التكنولوجيا الأوسع انتشاراً والأرحب أفقاً، تظل إشكاليات ضعف المحتوى العربي على شبكة الإنترنت، وحرية التدوين على صفحات التواصل الاجتماعي ـ برغم فوائدهاـ تخضع للهوى، وتنسف مبدأ المصداقية والعمق، بترويج روايات من وحي الخيال، طالت كل ما هو قديم وحديث حتى صحيح العقائد والعبادات.
وينسحب النعي على قارئها الإلكتروني ـ إلا قليلا ـ حيث حلت مصطلحات المتابعين والمعجبين بكل ما تحمله من سطحية، وصلت إلى حد كونها سلعة تُباع وتُشترى، بعد أن كان القارئ هو السيد والمسيد.
فضلاً سيدي القارئ .. إنها سياسة القطيع، ألم تسمع عن شراء مليون متابع على صفحة للفيسبوك أو تويتر أو إنستجرام؟ إلى أين سينتقل كل هؤلاء الأسرى؟ وإلى أي محتوى سيتعرضون دون إرادتهم؟ إلى أي مدى ستؤثر عليهم مغريات مالكهم الجديد؟ هل هو مجرد معلن، أم صاحب مصلحة تجارية، أم واجهة لجهات غير معلومة لا ندري ماذا تخبئ لغزو عقولنا ؟
لا ينفي الاعتراف بما حققناه من فوائد جمة بالانفتاح على وسائل الاتصال الحديثة، مسؤليتها عن تشوه الأجنة الثقافية، وإفراز جيل من "السطحيين" المرددين لعبارات يجهلون حقيقة معانيها، أو حتى دقة روايتها في أضيق التقديرات.
يبقى العبء الأكبر على عاتق القارئ الأسير في التحرر من قيود الإغراء، والانسياق وراء كل ما هو براق، أو مدفوع لجذبه، والانتقال بإرادته على شبكة الانترنت، عله يجد ضالته فيما يصبو إلى معرفته .
ولا يشغلني في نعي القارئ نوع الوسيلة ـ إلكترونية كانت أم ورقيةـ بقدر البحث عن ذلك المفقود، فلست من كهنة معبد الصحافة والكتب المطبوعة، بدليل أني أطل عليكم عبر صفحات بوابة إخبارية، وتطالعون سطور مقالي عبر هواتفكم المحمولة فقط أنعي إليكم قلة حيلة القارئ، وفي النعي حياة.