قصف "حلبجة" بالكيماوي.. بعد 15 عاماً أمريكا تكشف النقاب عن مراسلات "صدام حسين".. معرفة مصير المفقودين أمل يتجدد (وثائق وفيديو)

وثائق حزب البعث
وثائق حزب البعث
كتب : سها صلاح

أحيت ملفات مخفية من عهد صدام حسين، أعيدت سرًا إلى العراق العام الماضي، آمال الكثيرين في معرفة مصير أقاربهم الذين فقدوا منذ فترة طويلة، حيث تم العثور على 5 ملايين صفحة من الوثائق الداخلية لحزب البعث في عام 2003، وتم استدعاء رجلين من قبل القوات الأمريكية لفك تشفير الملفات العربية، وكان أحدهما كنعان مكية، وهو أمين أرشيف معارض لفترة طويلة، والآخر كان مصطفى الكاظمي، كاتب وناشط، ورئيس وزراء العراق الآن.

وروى مكية الواقعة لصحيفة 'وول ستريت جورنال' الأمريكية، قائلا: ذهبنا أنا ومصطفى، بعد الغزو، إلى النصب التذكاري في بغداد ودخلنا القبو بالمصابيح بسبب انقطاع الكهرباء، وفي الطابق السفلي المشبع بالمياه عثرنا على هذه الوثائق وأدركنا أننا وجدنا شيئًا ضخمًا، فقمنا بنقلها وتخزينها، ثم تم رقمنة الوثائق في مؤسسة هوفر، وهي مؤسسة فكرية ذات توجه محافظ في جامعة ستانفورد الأمريكية، لدراستها، ولكن تم نسيانها بعد إعدام صدام حسين.

تأسس حزب البعث في الأربعينيات كحركة عربية قومية علمانية، ثم انضم صدام إلى الحزب عام 1957 واستخدمه لفرض إرادته الحديدية على البلاد بعد تولي 'البعث' السلطة عام 1968.

الوثائق كاملة

كيف تم تهريب أرشيف حزب البعث؟

بعد الفوضى التي انتشرت في بغداد عقب احتلال العراق في أبريل 2003، عاد كنعان مكية، ورئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي الحالي إلى العراق من بريطانيا، واكتشفا أكواما من الوثائق والمستندات في قبو قرب نصب تذكاري ببغداد، وفي تلك المرحلة توجهت العديد من الجماهير الغاضبة إلى مراكز للحزب في العاصمة العراقية بغداد، ومنها النصب التذكاري لميشيل عفلق، مؤسس 'البعث'، وعندما علم الناشط الحقوقي، ومؤرشف انتهاكات البعث، بتحرك الحشود الغاضبة نحو تمثال عفلق، خشي أن تستهدف آلاف الوثائق الموجودة في مركز قربه، فتوجه إلى المكان برفقة الكاظمي، وهناك عثرا على أكوام من الوثائق الغامضة تحت مقر الحزب المجاور للنصب.

وثائق حزب البعثوثائق حزب البعث

ووفقاً للصحيفة الأمريكية، تم نقلها إلى منزل 'مكية' بموافقة من واشنطن، خوفاً من ضياعها، لكن الناشط الحقوقي تعرض لعدد من التهديدات، كما استُهدف منزله فاحترق العديد من تلك الوثائق، قبل أن يقرر مع الكاظمي نقل الوثائق إلى أمريكا عام 2005، وتم الاحتفاظ بها في مؤسسة هوفر، وهي منظمة فكرية ذات ميول محافظة بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا.

وذكرت الصحيفة أن نقل الوثائق تم في سرية تامة بسبب الخوف من محاولة اعتراض الفصائل المدعومة من إيران الشحنة، التي أصبحت مؤمنة تماما في الوقت الحالي في مكان غير معروف في بغداد.

ماذا جاء في وثائق حزب البعث العراقي السرية؟

أرشيف القيادة القُطرية وعلاقتها بحزب البعث

انشغل كنعان مكية، في الأسابيع التي تلت العثور على هذا الأرشيف، بمحادثات رسمية مع سلطة الائتلاف المؤقتة، للموافقة على نقله إلى مؤسسة الذاكرة العراقية في بغداد، بغية حفظه وأرشفته، وهذا ما حصل بتاريخ 23 سبتمبر 2003، ما إن دخل في عهدة المؤسسة، حتى استمر فريقها على تصنيفه إلى فئات متعددة، أولها بيانات طلاب المدارس الثانوية المنتشرة في محافظات العراق الـ18 ويبلغ عدد وثائق هذه الفئة نحو 160 ألف صفحة، ويصل حجم نسختها الرقمية إلى 160 جيحابايت.

تركز هذه الفئة على السنوات التي تلت حرب 1991، وتتضمن اسم الطالب وتاريخ ولادته ومكانها واسم أبويه وعنوانه وانتماءه السياسي، وهناك أيضاً تفصيلات بشأن المواقف السياسية لعائلته من الأحداث الرئيسية في تاريخ العراق الحديث، بما في ذلك موقف عائلته من الحرب العراقية الإيرانية، وأحزاب المعارضة وحرب الخليج الأولى وانتفاضة 1991.

الفئة الثانية تتعلق بالمراسلات المتبادلة بين مقرات الحزب في المحافظات العراقية كافة، ويبلغ عدد صفحاتها نحو 2.7 مليون وثيقة، ويصل حجم صورها ذات الجودة العالية إلى 5 تيرابايت، وهي مراسلات ديوان رئاسة الجمهورية مع الأجهزة الأمنية كالمخابرات والاستخبارات ومديرية الأمن العامة والأمن الخاص، وتغطي هذه الملفات مجموعة واسعة من الموضوعات من نحو الشؤون اليومية والأحداث الخاصة بالحزب.

وثائق حزب البعثوثائق حزب البعث

الفئة الثالثة تختص بملفات العضوية الحزبية، وتضم أكثر من 3 ملايين صفحة، ويبلغ حجم وثائقها المصوّرة بدقة عالية نحو 5 تيرابايت، وتحتوي هذه الفئة ملفاً لكل القياديين الكبار في الحزب، حيث يركز على الموقف الأمني منهم، بالإضافة إلى وظائفهم السياسية وتوصيات رؤسائهم ومسؤوليهم المتعلّقة بترقيتهم في العمل وأدوارهم في تأمين مصالح الحزب في مناطق سكنهم وأماكن عملهم، وتفصيلات أخرى مثل طلبات السفر وإجراءات التقاعد، وتوجد فيها أيضاً ملفات لبعض قادة الخط الثاني من الحزب، وبعض الأعضاء الذين لم يكونوا قادة ولكنهم تعرّضوا لمشكلات مختلفة مثل الفصل من الحزب.

أما الفئة الرابعة فتتعلق بملفات وزارة الثقافة والإعلام التي يبلغ عددها 1.336 صفحة، وتتكون هذه الفئة من وثائق خاصة بالوزارة المذكورة، تعطي فكرة كافية عن هوس صدام حسين بصورته أمام الرأي العام، وتغطّي الفترة الواقعة بين عامي 1991 و2003.

وتضم هذه الفئة نصوصاً لصدام تحاكي القرآن في أسلوبه، وأخرى تختصّ بالثقافة العراقية سلباً أو إيجاباً، متضمنة رغبة واضحة في إعادة تشكيل تلك الثقافة وفروعها كالشعر والعمارة مثلاً، ورسم منهاج لما تسميه بالإعلام الوطني، كي تتوافق مع خيال صدام وذوقه.

وثائق حزب البعثوثائق حزب البعث

وتصور ملفات أخرى خُطب صدام واجتماعات المنظمات النسوية للحزب والحفلات التي أقامها عدي صدام حسين، وما إلى ذلك. كما يوجد ملف صغير حول الوجود اليهودي في العراق، يقدّم جرداً بالعائلات اليهودية وأفرادها فضلاً عن العائلات التي غيّرت دينها إلى الإسلام أو المسيحية، مع التركيز على المحافظات الكردية.

معركة حلبجة

لم يكن مرور كل هذا الوقت كافياً لحسم النزاع بشأن الطرف المتورط في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد حلبجة، فالقوات الإيرانية التي كانت تحتلها قبيل الهجوم الكيماوي تقهقرت إلى الخلف بفعل ضغط القوات العراقية، فصار مركز المدينة في وسط 'الأرض الحرام' التي يسقط فيها معظم ما يطلقه المتقاتلان على بعضهما البعض.

ودارت هذه العمليات العسكرية يومي 16 و17 مارس عام 1988، وكانت إحدى التطورات الرئيسة التي أدت إلى إنهاء الحرب العراقية الإيرانية بعد قتال مدمر دام ثماني سنوات، وخلّف خسائر بشرية ومادية كبيرة.

وقُتل خلال القصف الكيماوي على حلبجة، حوالى خمسة آلاف مواطن كردي من العراق، وتوفي بعد ذلك حوالى 10 آلاف شخص، بسبب المضاعفات التي تركها هذا السلاح المحظور دولياً، وعانت المدينة من آثار بيئية مدمرة، يستمر بعضها حتى الوقت الراهن.

وثائق حزب البعثوثائق حزب البعث

الرواية الشائعة التي تتوفر على أدلة أكثر ولديها أنصار كثر، تقول إن القوات العراقية أرادت استعادة حلبجة بأي شكل من الأشكال من القوات الإيرانية، لا سيما مع ازدياد المؤشرات إلى أنّ عام 1988 قد يكون عام نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ما يتطلّب من كل بلد تسريع عمليات استعادة الأراضي التي يحتلها البلد الآخر على الشريط الحدودي البالغ طوله 1458 كيلومتراً.

ووفقاً لهذه الرواية، فقد اندفعت القوات العراقية نحو حلبجة في 16 مارس، وعندما انسحبت القوات الإيرانية منها، تعرضت لوابل من قنابل مزودة بغاز كيماوي قاتل. ويدعم سكان إقليم كردستان وقيادته السياسية وإيران، ولاحقاً الجانب الأكبر من المجتمع الدولي، هذه الرواية، لكنّ هناك طرفاً واحداً في الأقل يتبنى رواية أخرى.

وثائق حزب البعثوثائق حزب البعث

وتشير رواية الطرف الآخر إلى أن القوات الإيرانية هي من هاجم هذه المنطقة بالسلاح الكيماوي، بعدما اضطُرت إلى الانسحاب منها تحت ضغط القوات العراقية، وتستند هذه الرواية إلى ما تقول إنّها إصابات تعرّض لها جنود عراقيون بالسلاح الكيماوي خلال القصف الإيراني لحلبجة.

وكان نظام صدام حسين يتبنى هذه الرواية حتى تفكيكه على أيدي الأمريكيين عام 2003. وحتى بعد ذلك، بقيت هذه الرواية موجودة لدى وسائل الإعلام العراقية المناهضة لإيران، لكن وقائع الحرب العراقية الإيرانية في أعوامها الثلاثة الأخيرة، كانت تشير إلى أن الهجوم الكيماوي على حلبجة لم يكن عملاً منفرداً، بل هو جزء من استراتيجية بغداد لمعادلة الميزان العسكري الذي بات يميل إلى طهران أكثر، بفعل قدرتها على توفير حشود بشرية لخوض المعارك البرية، لا يملكها العراق.

وترتبط مأساة حلبجة في الذهنية الكردية بأحد أكثر المسؤولين دموية في نظام صدام، وهو قريبه علي حسن المجيد، الذي كان وزيراً للدفاع، ولكثرة ارتباط اسمه بالهجمات الكيماوي، أطلق أكراد العراق لقبَيْ 'علي كيماوي' و'علي حسن المبيد' بدلاً من المجيد، على الوزير العراقي، وفيما بعد، انتقل اللقبان إلى الاستخدام في مدن العراق الأخرى.

تسجيلات صوتية

في شهر يوليو الماضي قال مركز 'ويلسون' الأمريكي أنه تم الكشف عن أرشيف حزب البعث الذي استولت عليه واشنطن في فترة الغزو عام 2003 ليصبح متاحا للباحثين للعراقيين لمعرفة ما حدث قبل الغزو العراقي، حيث أكد أنها تحتوي على سجلات وتسجيلات صوتية ووثائق لنظام صدام حسين وللتسجيلات السرية لاجتماعاته وتسجيلات لمكالمات هاتفية ومؤتمرات تضم آلاف الساعات المسجلة وقد يوفر هذا الأرشيف أفضل نظرة على العراق في عهده، كما يحتوي على محاضر اجتماعات القيادة القطرية ومؤتمرات الحزب والانتخابات ويحتوي على وثائق خاصة بالحياة الداخلية لحزب البعث العربي الاشتراكي.

وبين الوثائق، كانت هناك رسائل مخاطبات بين الحزب ووزارات تتعلق بأمور إدارية، وتقارير كتبت من عراقيين يتهمهم جيرانهم بانتقاد صدام حسين، وأخرى تتحدث عن شكوك حول خيانة جنود عراقيين تعرضوا للأسر خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988).

روايات مأساوية داخل الوثائق

وفي السياق، قال أيوب الزيدي، الذي فقد والده صابر بعد التحاقه بالخدمة العسكرية لدى غزو العراق بقيادة صدام حسين للكويت في عام 1991: 'صدام دمر الشعب العراقي، لا يمكنك السكوت على مثل هذه الأفعال'.

في حين اعتبرت والدته حسنية أن تلك الوثائق 'يمكن أن تكون أول الخيط حتى نعرف إذا كان لا يزال على قيد الحياة، وقالت تلك السيدة التي أمضت سنوات تسعينات القرن الماضي، تتوسل نظام البعث من أجل الحصول على معلومات عن مصير زوجها 'سأموت قبل أن يكشفوه'.

فيما قال المخرج العراقي مرتضى فيصل، الذي كان في الـ12 من العمر عندما اعتقل والده في مدينة النجف الأشرف أيام الانتفاضة الشعبانية عام 1991، ولم يسمع أي شيء عنه منذ ذلك الحين، إن 'عددا كبيرا من الشباب اليوم يقولون إن صدام كان جيدا، ويسعى هذا المخرج لفتح الأرشيف لوضع حد للذكريات الوردية لحكم البعث، قائلا: 'يجب أن يدرك الناس أن عليهم ألا يصنعوا ديكتاتوراً آخر'.

وأضاف كاظم الذي اطلّع على الوثائق لكتابة مؤلفات أكاديمية حول تاريخ العراق ومجتمعه، إن 'العراق غير جاهز، لم يبدأ عملية المصالحة التي تسمح لهذا الأرشيف بلعب دور إيجابي'.

وثائق حزب البعثوثائق حزب البعث

كما أشار إلى أن ما اطلع عليه يخص حتى بعض المسؤولين الحاليين، مضيفا: 'البعثيون وثقوا كل شيء من النكتة إلى الإعدام، وإذا كشف، سيبدأ السياسيون وزعماء العشائر والناس في الشارع باستخدامه ضد بعضهم البعض'.

في حين رأت مارسين الشمري، التي استخدمت هذا الأرشيف لكتابة رسالة دكتوراه، وهي عضو في معهد 'بروكينجز' في الولايات المتحدة، أن 'أقل ما نستطيع فعله هو إتاحته للباحثين العراقيين بالطريقة نفسها التي أتيح بها للباحثين الأميركيين'.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً