هل تتذكرون قصة المسلسل الدرامي 'عباس الأبيض في اليوم الأسود' الذي ذاع صيته في سباق الدراما الرمضانية في السنوات الماضية، يبدو أن هناك قصصا من الواقع تقتبسها الدراما، مع إضفاء الحبكة الدرامية عليها، وقصتنا الواقعية التي نحن بصددها، تروي قصة ضابط مصري بالقوات المسلحة، شارك في حرب الاستنزاف وكذلك حرب أكتوبر المجيدة، وكان قد قضى نحو 20 عام، في الجيش متنقلا في الصحراء بين الجبال والرمال، وقرر تسوية معاشه، والسفر خارج مصر من أجل الترفيه، وقع الاختيار وقتها على العراق، وكانت حينئذ تنفض مصر غبار الحرب عنها، وتحتفل بالنصر المجيد، قرر الهروب من آثار الحرب المنتهية منذ عقد من الزمن، لكنه هرب من حرب أصبحت ذكرى، ليعيش مجددا في قلب الحروب والأهوال في العراق.
بطل القصة، هو الرجل السبعيني 'فوزي مرسي الشوربجي'، من إحدى قرى مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، الذي خرج شابًا مغادرا وطنه إلى العراق، ليعود كهلاً والشيب يكسو ملامحه بعد نحو 40 عام من فراق الوطن والأهل والأحبة، يقول: 'كنت ضابطًا بالقوات المسلحة، شاركت في حرب الاستنزاف، وكذلك حرب أكتوبر المجيدة، وكنت من مصابي الحرب إذ قضيت 6 أشهر أتلقى العلاج حينها إثر حرق ناري'، متابعا: 'استأنفت حياتي في الجيش من جديد وواصلت خدمة الوطن لنحو عقد من الزمان، لأكون وقتها أتممت نحو 18 عام في مهنة المشاق ومصنع الرجال الجيش المصري، إلى أن قررت اعتزال حياة الجيش القاسية، ومغادرة الجبال والرمال، إلى وجهة جديدة أجد فيها الرفاهية والحياة الناعمة، ولكن في مجتمع مختلف غير المجتمع المصري، فوقع الاختيار على العراق، وكانت مشورة أحد أصدقائي وقتئذ'.
الحاج فوزي الشوربجي
يتابع 'الشوربجي': 'في الوقت الذي قررت فيه السفر خارج مصر، كانت لي أسرة مكونة من زوجة و 6 أبناء، وكانت زوجتي وضعت آخر مولود لنا قبل رحيلي بشهور، وعزمت الرحيل ووصلت لأرض العراق، ولأني أجيد قيادة السيارات، عملت كسائق نقل ثقيل على تريلا'.، متابعا: 'كنت أعمل في نقل البضائع ما بين العراق وسوريا وعمان والأردن، وكانت الحياة مزدهرة لحد كبير'، مضيفا: 'كنت خلال العام الأول متواصلا مع أسرتي في مصر، وبالتدريج انخرطت في العمل والحياة الصعبة، فانقطعت عن التواصل بهم، مرت ثلاثة أعوام وفي بداية العام الرابع، أحببت امرأة عراقية وتزوجتها رغما عن عائلتها إلا بموافقة والدها، لأنهم لا يزوجون فتياتهم للأجنبي وإن كان عربيا'.
ويتذكر بسعادة موقفا له جمعه بالرئيس العراقي 'صدام حسين' قائلا: 'كنت في يوم مقربا لبعض العراقيين المحبين لصدام والمؤيدين له، والتقيت الرئيس العراقي الراحل، وكان لماحا ذو نظرة ثاقبة، عرف أني مصري وما أثار دهشتي أنه ربت على كتفي مرحبا بي ومرددا جملة: 'زين الرجال المصريين، زين العرب الأشقاء وكان أكثر الحضور حفاوة بي لكوني مصري، ومنحني وسام أو نوط الصداقة معه، كنت أتقاضى راتب شهري من خلال شهادة الصداقة تلك'.
الحاج فوزي الشوربجي وأفراد أسرته
لم تأتي الرياح بما تشتهي السفن، ولم تصادف الأحداث في العراق هوىً في قلب الشاب المصري، فقد ترك وطنه بحثًا عن الرفاهية وحياة الرغد، فمنذ أن وطأت قدماه العراق، دارت الحروب والمعارك بين العراق وإيران استمرت نحو 8 سنوات، تأثرت الأجواء وكذلك الحالة الاقتصادية، كما توقف عن السفر في نقل البضائع والعمل في قيادة النقل الثقيل، أغلقت الحدود وصارت البلاد في حالة حرب، وتجري الأحداث سريعا، وتشتبك الكويت مع العراق ونزاعات لم تنتهِ بعد، ثم حاصرت أمريكا العراق لمدة 9 أعوام، كانت سنوات عجاف، لم يجد الموطنون رغيف الخبز أو عود الثقاب، ظل لسان حاله يقول: 'ليتني ما غادرت مصر جنة النعيم، هربت من أثار حرب منتهية، لأعيش حروب متتالية'، انقطع عمله في القيادة وأنجب مرات عديدة من زوجته العراقية، بلغت ثمرة زيجته 3بنات وولدين، وظل يكافح ويحتمل أهوالا من أجل سد احتياجهم، ناسيا أسرته في مصر متغافلا عما يحدث لهم، كان يعمل أحيانا جرسون بمطعم، أو ربما حداد، أو عاملا المهم أن يجد قوت زوجته وأبنائه العراقيين'.
الحاج فوزي الشوربجي وأفراد أسرته
يضيف 'الشوربجي': 'عشت أياما صعبة ولا تحتمل، وفي كل مرة كنت أفكر في العودة لمصر، كانت الحدود المغلقة وحالة العراق سياسيا تمنعني بل وتكبلني، كما كنت أعيش في حالة فزع دائمة فأنا غريب في بلد تعيش أهوال الحروب، كنت أخشى على صغاري وحتى عندما صارت فتياتي في سن الرشد خفت أكثر، كنت أنام خلف الباب ببندقية لأحمي عرضي، مشيرا إلى انفراجة حدثت للمواطنين، بعد احتلال أمريكا للعراق، وبعد إعدام الرئيس صدام'، مؤكدا على أنه تواصل مع أهله بعد هذه الفترة الزمنية العصيبة.
ويوضح: 'تعرفت على بعض الشباب من مصر يعملون بالعراق، زوجت اثنتين من بناتي لرجلين مصريين منهم، واحدة بالمنصورة وأخرى بالقاهرة، للحفاظ على هويتهم وصلتهم بمصر، وقلت لهم أن يتواصلوا مع أهلهم وعائلتهم بمصر عند زيارتهم الأولى لوطنهم الأصلي، ومن هنا بدأت العلاقة تعود من جديد، وكنت دائما أحكي لأسرتي العراقية المصرية عن مصر وما لي هناك من أهل وأبناء وحياة تركتها لأكون سببا في مجيئهم الدنيا، متابعا: 'بعدما ظنوا أنني توفاني الله، كان الخبر مفاجئا لهم بزيارة ابنتي المتزوجة بالدقهلية لهم وأطلعتهم على أنني مازلت حيا أرزق، قابلوها بحفاوة وترحاب شديد، ومن بعدها والدتها العراقية التي أتت إليهم تزورهم وتتعرف عليهم، قابلوها هي الأخرى بحفاوة وترحيب'، مستكملا: ' ثم تواصلت معهم عن طريق الانترنت والتليفون الذي ظل مقطوعا طوال سنوات عديدة خلال الحروب التي مرت بها العراق'.
الحاج فوزي الشوربجي
ويختتم 'الشوربجي': 'أنا الآن في أحضان مصر وعلى أرضها أقول عشت أهوالا في العراق وقد آتيت لمصر أدفن بها وأقضي ما تبقى من أيام معهم وأطلب سماحهم خاصة نجلتي الصغرى الغاضبة تلك التي تعاتبني كثيرًا لأنني تركتها دون أب طيلة سنوات عمرها وأنا مشفق عليها، وكذلك زوجتي الأصيلة التي لم تتزوج وربت أبناءها الـ 6 حتى أنها فقدت ولدا شابا في العشرين ذاقت به المرارة والألم بموته، وأتمنى أن يعوض أسرتي المصرية ما قصرت في حقهم طوال 40 عام مضت'.
أسرة الحاج فوزي الشوربجي
أسرة الحاج فوزي الشوربجي