لم تمر البشرية، من أدنى الأرض إلى أقصاها، بمثل هذا الوباء العالمي، ظن أهلها بأنهم قادرين عليها، فتجلت آيات الله في فتكه على ضعفه، وعجز العالم برغم قوته وتقدمه، طاف كوفيد أرجاء الأرض، بين شهيق وزفير، ينقل سكان القصور وعوامهم إلى القبور، لا فرق، ولا عاصم، إلا من رحم ربي.
عشنا أحلك لحظات العمر في عام 2020 بين خوف ورجاء، هربا من العدوى، باتت نظرات الوداع مستحيلة، فر الأخ من أخيه وأمه و أبيه، غُلقت الحدود، وفُرضت الأحكام العرفية، ولم ننجُ من عواقبه، نال الدول الغنية ما نالها من حصاد مر، عجزت أمامه كل أسلحة التقدم، في وقف نزيف الأرواح وما كان من رؤساء حكومات دول عظمى إلا أن قالوا لشعوبهم: "انتهت جميع الحُلول على وجه الأرض، الحل متروك للسماء"،
بينما بقى غالبية فقراء العالم يتمتعون برعاية ربانية، فحال دون انتشاره طقوس بلدانهم الحارة، ومناعة الأوبئة التي عانوا تفشيها ردحاً من الزمان، ولقي آخرون حتفهم على أبواب المستشفيات المكتظة.
تظاهر أغنياء العالم بأنهم قد تعلموا الدرس، لم يعد هناك مكان للتعالي، والعنصرية، فمن يحكمون العالم باتوا لا حيلة لهم في غرف الرعاية الفائقة، ومن يملكون الثروات، لم تعصمهم ثرواته من الموت، جُيّشت العقول، ودارت ماكينات المعامل، إلى أن لاح شعاع النور مع ظهور اللقاحات المضادة، وتبارت كبرى الشركات العالمية في سباق محموم، للفوز بالجائزة الكبرى التي ضاعفت إنتاجها وعززت أرباحها.
إلى هذا الحد يبدو الأمر منطقيا ومشروعا، خاصة أن حديثنا يدور عن تلك الدول الغنية، وفي مقدمتها، الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ودول الاتحاد الأوروبي، التي تُعلي من قيمة الإنسان، وتنادي بحقوقه حول العالم (كما تدعي) دون النظر إلي اللون والعرق والدين، و مع ضراوة الموجة الثانية لفيروس الكوفيد الذي أبى إلا أن يصاحبنا إلى 2021 وتعدد سلالاته، سرعان ما تبخرت الوعود في عدالة توزيع اللقاح، وغابت كل قواعد الحق في الدواء والحق في الحياة، وتكرر مشهد الأنانية الذي بلغ حد القرصنة لتوفير الكمامات، وأجهزة الوقاية من بعض الدول أثناء الموجة الأولى من الجائحة.
ظاهريا، أطلقت منظمة الصحة العالمية، مبادرة "كوفاكس"، لتجنب التدافع الدولي للقاحات، لكنها لم تفلح سوى في تأمين جزء يسير من اللقاحات المنتجة خلال عام 2021 لدول العالم الثالث، بتعاقدات مع أسترازينيكا ونوفافاكس وسانوفي-جي إس كاي، و "جونسون أند جونسون" التي لم تحصل لقاحاتها بعد على ترخيص من السلطات المعنية، وحتى وعود لقاح أوكسفورد، بتوفير اللقاح بنسبة 64 % للدول النامية، لن تكون كافية لتلقيح سكان العالم الثالث، ومن المرجح أن يتم تلقيح 18% منهم فقط.
ووفقاً للإحصاءات العالمية، استحوزت الدول الغنية منفردة بالتعاقد على 9 مليارات جرعة من إجمالي 12 مليار جرعة، إجمالي ما ستنتجه شركات الأدوية خلال عام، ولن يتمكن من التلقيح سوى شخص واحد من بين كل 10 أشخاص حتى نهاية 2020، ففي الاتحاد الأوروبي، ستحظى كل سكان دولة بتلقي اللقاحات في آن واحد، أما كندا، فتعاقدت على لقاحات تساوي 5 أضعاف أعداد مواطنيها، وعن الولايات المتحدة الأمريكية، فحدِّث ولا حرج، فالأسبقية للجنس السامي، وليذهب فقراء العالم إلى الجحيم.
وقد أظهر تقرير لصحيفة "لوس انجلوس تايمز" الأمريكية، كيف تعاملت الدول الغنية مع اللقاح؛ حيث وفرت لنفسها جميع الإمدادات العالمية من اثنين من اللقاحات البارزة، فحجزت ما يُنتَج منها حتى نهاية عام 2021، تاركة دول العالم ذات الدخل المتوسط تتجه إلى الأدوية الروسية والصينية التي لم تثبت فعاليتها، بينما تضطر الدول الأكثر فقرا، أن تنتظر لفترات طويلة كي تحصل على الجرعات الأولى من اللقاح، وهو ما قد يؤدي إلى إزهاق مزيد من الأرواح خاصة مع ظهور سلالات متحوّرة من الفيروس بنسبة عدوى تصل إلى 50% عن سابقاتها.
كل الشواهد تشير إلى أن فقراء العالم سيبقون على حالهم، دون أن يحصلون على لقاحات كوفيد الجديدة، يشتكون أغنيائه إلى الله، ويسألوه سؤال المضطر إذا دعاه، أن يرفع البلاء والوباء، لعل أغنياءه ينْجون بدعوتهم.