هل سألت نفسَك إن كُنت من الحُراس ؟ هل فهمت ما المقصود بالحُراس هنا؟ (مظُنِش إنك فهمت ! بس متتضايقش لو مفهمتش لأن السؤال فعلاً مش واضح ومش مُحدَد)، مبدئياً يجب أن يكون هُناك ما تَحرُسه لكى تكون حارساً (كلام منطقى والله!)، لكن من هُم الحُراس؟ أين نجدهم ؟ وماذا يحرسون؟
الحُراس هم بشر عاديين مِثلنا تماماً غير أنهم ولسبب لا يَعلمُه إلا الله وحده وجدوا أنفسهم حُراساً، هكذا بلا دعوة من أحد وبلا إتفاق، بعضهم صار حارساً على التقاليد والعادات، وبعضهم صار حارساً على تفاصيل طريقة أدء مهام العَمَل، البعض الأخر منهم صار حارساً على الأخلاق، بينماصار الأخرون حُراساً على المناسك الدينية والعبادات.
الحراسة من هذا النوع هى دائماً منصب تطوعى لا تكليف فيه، إذ يُصبح الشخص حارساً دونما دعوة من أحد، بل يتحرك فى إتجاه عمله أو لنَقُل قَدَرُه كحارِس بدافعٍ شخصى بحت، ويتقلد الواحد منهم منصبه هذا مُتحملاً تبعاته أياً كانت بلا أجر ولا مثوبة إلا من الله سبحانه وتعالى، لكن .. أين نجدهم هؤلاء الحُراس وماهى مواصفاتهم؟ هل هم هُنا حولَنا وبيننا ؟ والإجابة هى نَعَم ، فهؤلاء البشر موجودون حولنا دائماً وفى كل مجالات الحياه وفى كل الأزمان.
فى العائلات هُناك دائماً ذلك العَم أو الخالة أو الخال، ذلكالشخص الذى يحفظ كل أنواع المجاملات والمُناسبات، ما يقال وما لا يجب أن يُقال؟ ما الهدية المناسبة؟ ما قيمتها؟ أين نضعها؟ هل يجب أن نذهب للمُناسبة الفلانية أم لا؟ هل من الأفضل أن نَذكٌر هذا الموضوع أو ذاك أم الأفضل تجاهله؟ .. ألم يجرِ الحوار التالى فى بيوتنا من قبل:
-الشخص ا: يعنى أحسن أديله فلوس ولا أشترى له حاجة؟ طيب أجيب شوكولاتة مثلاً وأحط الفلوس فى ظرف؟
-الحارس أو الحارسة: أه كدة أحسن بس لازم تقولى (أو تقول) مبروك وتهنيه .. الكلام أهم من الفلوس
ويتألق حُراس العادات فى المُناسبات الحزينة أكثر بكثير من الأفراح وتظهر قيمتهم أكثر (زى متقول كدة موسم بالنسبة لهم !)، إذ يطغى الحُزن وحساسية الموقف على الجميع ويفتقد الجميع لمن يوجههم، ما يقال وما لا يجب أن يٌقال؟ ما يجب أن نرتديه وما لا يجب؟ ما نوع الدعم المطلوب للشخص صاحب الأزمة أو المُصيبة؟ ويؤدى حراس العادات والتقاليد دورهم بلا كلل ولا ملل، فيسعدوا لسعادة من أدى المُجاملة حسب الأصول و سعادة من تلقاها، ويحزنوا لحُزن من تخلف عن أداء الواجب وحُزن صاحب المُناسبة الذى خُذِل ، ويشارك الحُراس هؤلاء بهمة ونشاط فى إيجاد خطط بديلة لتفادى الأزمة الناشئة عن تقصير من قَصَر فى واجب أو تَخَلف عن مُناسبة.
أما فى العمل فما من شركة ولا مشروع ولا مؤسسة إلا وفيها حارِس، ذلك الموظف أو الموظفة أيا كان موقعه، مهندساً كان أو مُدرساً أو مُديراً أو طبيباً، ذلك الذى يرجع إليه زملاؤه فى أغلب الأمور، كيف يكتبون مراسلاتهم (الإيميل) وما يجب أن يُقال ومالا يجب أن يُقال؟ وبأى لهجة وبأى صيغة؟ عن الخطوات المطلوبة فى عمل ما؟ عن الإخراج النهائى لمُهمة ما؟ ماذا قبل ماذا وماذا بعد ماذا؟ هم حُكماء الشركات والمؤسسات، ولا يُقدِم المديرون وقادة الشركات على عَمَل إلا بعد الرجوع إليهم، بل وأخذ موافقتهم! نعم موافقتهم! إليكم المثال التالى:
فى مسلسل التاج المأخوذ عن قصة العائلة المالكة البريطانية رأينا جميعاً تأثير شخصية سكرتير الملكة الشخصى على قرارات المَلِكة، إذ لعِبَ السكرتير هنا دور الحارس الذى أعنيه! و إستطاع هذا الموظف المُعيَن أن يحَرُسَ العائلة والنظام المَلَكى من أخطار كبيرة وافقَتأوأقدمت الملكة نفسها عليها، وكان ذلك السكرتير (الحارس) دائماً فى الموعد مُستعيناً بحفظِه وإطلاعِه على كل قوانين و قواعد وتقاليد الملكية، وأبطَل الكثير من الخطط الضارة للمَلِكة والمَلَكية فى مهدها، مَنَع زيجات مَلكية وألغى وعَدَّل الرحلات والمُقابلات وكَتَب الخُطب ، نعم كان ذلك الشخص موظفاً مُعيناً بأجر لكنه أدى دوره فى البلاط بحرفية و تَفانٍ و (مزاج) ، والأكيد أن هذا الشخص كان ينتمى لتِلك الطائفة صاحبة العِرق النبيل (طائفة الحُراس)! وقد تعاقب على هذا المنصب ثلاثة أشخاص فى غضون ثلاثين سنة، إلا أنهم ساروا على نفس الدرب وبلا حيود وبنفس الإيمان بما يفعلوه.
أما فى المناسك الدينية فهناك دائماً الشخص الموسوعة صاحب الإجابات الحاضرة (الصحيحة)، هو النجدة لكل صاحب سؤال فى الصيام والصلاه والطهارة وفى كل الأحكام، يُفتى بِعلمٍ فيوفر الوقت على صاحب السؤال فلا يلجأ لسؤال رجل الدين أو العالِم الغير موجود دائماً بالضرورة، يظهر ذلك الحارس فى الوقت المُناسب بإجاباته وبتفاصيل تُجبر كل من فكر فى الإستسهال أو تخطى الأحكام أن يعود إلى صوابه ويلتزم الطريقة الصحيحة فى العبادة.
هؤلاء البشر الرائعون الحُراس هم فعلاً كنز من كنوز الدُنيا فلولاهم لتفلتت من أيدينا العادات والتقاليد وأسرار المِهَن ولقَلَ إحترامَنا للمناسك الدينية، هؤلاء هُم الذين يظهرون فى الأوقات المُناسبة فيُجبروك على عمل الشئ المناسب فى الوقت المناسب بالطريقة المُناسبة، وهم يُجبروك بلا سُلطة، يُجبروك فقط لأنك تثق أن ما يقولوه هو الشئ السليم، تماماً كما كان يظهر الفنان الراحل غَسان مَطَر فى أحد أفلام الفنان أحمد مِكّى مُنبهاً ومٌحَذِراً بصوته الجهورى (إعمل الصح)!
غير أن تلك المُهمة التطوعية شأنها شأن كُل مِهنة لا تخلو من متاعب، إذ أن هؤلاء الحُراس وعلى قدر إحتياجنا لهم إلا أننا نستثقل كلماتهم وتعاليمهم ونُحاول دائماً أن نحل مشاكلنا بعيداً عن تعليماتهم الدقيقة المُفصلة معتمدين على إيجاد طُرق سهلة أو (شورت كَت)، ويفقد هؤلاء البشر الرائعون (الحراس) شعبيتهم فقط لأنهم تمسكوا بالأصول، وكم دار بيننا ذلك الحوار :
-شخص ينصح أخر: إسأل فلان (الحارس) وهو حيقولك تعمل إيه بالظبط
-الأخر صاحب المشكلة أو السؤال: يا عم ده حيصعبلى الموضوع ويقوللى تفاصيل ونقعد نقول ونعيد وأنا معنديش وقت
هكذا هم الحُراس مهمون ومطلوبون غير أنهم ليسوا أظرف الناس ولا ألطفهم لكن يكفيهم فخراً أنهم الأهم!
التأقلم مع الحداثة أيضاً من المشاكل التى يواجهها الحُراس وتواجهها مهنة الحراسة إذ أنهم -أى الحُراس- لا يستطيعون دائماً التأقلُم مع أدوات الحياه الحديثة، هم غالباً أعداء مضمونون لمواقع التواصل الأجتماعى، أعداء ( اللايكات) و (الشير)، أعداء كروت الهدايا الإلكترونية (الجيفت كارد)، أعداء كل أنواع الإختصارات فى قواعد العمل تحت أى مُسمى، أعداء خط الحلو بالحار فى الأكل الحديث ، الفتاوى الإلكترونية، وتنفطر قلوبهم حُزناً عندما يرون أن ما تعلموه وإختبروه خلال حياتهم قد بات فى مهب الريح تحت تهديد الحداثة..
وكما الحل فى كل المِهَن، لا بد من تعاقب الأجيال ولا بد من إخراج كوادر جديدة من (الحُراس) ، وبغير إتفاق ينتقل حب المُهنة من جيل لجيل وتسرى روح (الحراسة) مثل سِر غامض من أسرار السِحر والغوامض، ويخرج الجيل الحديث من الحُراس، ويلتف الناس من جديد حول حارس جديد شاب بعد أن أدى الحارس الأول مُهمته فى الحياه :
-فى الشركات: الأستاذ عمرو (الحارس الجديد) ده فعلاً أخد من المهندس عماد (القديم) كل حاجة، مع إنهم متقابلوش، ده عارف كل حاجة ما شاء الله عليه!
-فى العائلات: إنتِ واخدة من تانت أمل (الحارسة القديمة) كل حاجة، ناصحة كدة وعارفة كل حاجة !
وهكذا تنتقل المهنة من جيل لأخر ، هم ليسوا دائماً المُديرين والقادة وعُمد العائلات لكنهم يتواجدون تحت أسماء أخرى (الخير والبركة، أولاد الأصول، الشُطار، الناصحين،..)، تحية من قلبى لكل من إمتهن هذه المِهنة وعمل بجد وإجتهاد مُتطوعاً على حفظ التراث الإنسانى، ولكل من قال أن (العين عليها حارس) أقول (مش بس العين اللى عليها حارس)! الحقيقة أن (كل حاجة عليها حارس)!