لا تخلو الحياة من منغصات وآلام، بل وجراح وكسور تبقى بنا ومعنا، وربما إعاقات أو مشكلات مزمنة نفسية وذهنية وشعورية وسلوكية ترافقنا وتبقى معنا لأجل قصير أو طويل أو دائم... مع ذلك، يكون من الوهم ألا نتوقع الصدمات، ويكون من الغباء وسوء التقدير ألا نعترف بها عند حدوثها، ويكون من المؤسف ألا نعمل على تجاوزها واستعادة توازننا بعدها.
عندما تحدث حادثة الاصطدام، وبعدها تأتي حالة الصدمة، تكشف لنا الحياة عن حقيقةٍ لم نكن نريد أن نراها، وعن واقعٍ لم نكن نريد الاعتراف به، وعن مواقف وأسماء وأشياء لم نكن قادرين على استيعابها بشكل صحيح، أو التعامل معها بالحذر الواجب، أو الاحتياط الكافي... عندما يحدث هذا، فإن علينا أن نعي وندرك ونعرف ونستوعب أن هذه اللحظة المفصلية (لحظة الارتطام والاصطدام) وهذه المرحلة الانتقالية التالية لها (مرحلة الرضوض الناشئة عن الصدمة، والجروح والكسور الناتجة عنها) هي "الاستثناء" الذي لا يجب أن يدوم، وهي "الانتقال" الذي لا يجب أن نتوقف عنده للأبد، وهي "اللحظة" التي علينا استيعابها وامتصاص شدتها (وهي التي تكون مثل الزلزال أو البركان المتفجر الذي يزلزل أو يلفح بناره أو يحطم كل مشاعرنا، ويشكّكنا في كل معتقداتنا، ويقلب لنا كل مفاهيمنا ومواقفنا)... كما أنه يجب علينا وقتها أن نخطط لكيفية التعامل مع "المرحلة" التي تأتي بعد الصدمة، وننظر في كيفية جعلها مرحلة عابرة أولاً، ومرحلة ممكن عبورها ثانياً، ومرحلة نستطيع تجاوزها والخروج منها والاستشفاء من تبعاتها ثالثاً.
إن مثل هذه الحالة من الصدمة، ومن اكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، تكون بالفعل هي الأخطر من الصدمة نفسها ومن التجربة كلها. إنها تكون نوعاً من "الحياة" بمقلوب ما يجب أن تكون عليه "الحياة" من البساطة والرضا والطمأنينة واليقين، فتصير الحياة حالاً من الشك والارتياب والتوجس والتوتر والعصابية والكراهية والاغتراب.
في مثل هذه الحالة، لا يكون الطبيعي والبديهي والمتوقع جداً أن يقابل الآخرون مواقفنا العدائية نحوهم والمتشكّكة فيهم والسلبية تجاههم وضدهمبمواقف منهم مماثلة ومشابهة، وربما ليست أقل في الدرجة أو الحدّة أو القوة من موافقنا.
إذا كنت تقول: أنا لا أثق في أحد... وأشك في كل أحد.. ولا أفترض حُسن النوايا في أحد... فيجب أن تتوقع أن رد الفعل المقابل لذلك سيكون هو أن الجميع لا يثقون بك، ولا يصدقونك، ولا يقبلون مبرراتك في الشك في الآخرين وعدم الثقة بهم، كما أنهم لن يكونوا قادرين على أن يفترضوا فيك حُسن النية في مواقفك واتجاهاتك وتصرفاتك... بالقطع ستكون العلاقة عندها مقطوعة بينك وبين العالم، وبين العالم وبينك، لأن عيشنا مع الآخرين لابد وأن يكون متفاعلاً ومتحركاً في الاتجاهين، من... وإلى...، مناإليهم...، ومنهم إلينا...
إن العالم يستحق منا أن نقدِّر أنفسنا فيه، وأن نكون على حالة من الانسجام والتآلف والتوافق مع كل عناصره ومفرداته ومخلوقاته. علينا أن نعامل أنفسنا بما تستحق، أن نُكرمها ونعطيها الفرصة تلو الأخرى لتحاول وتجرِّب وتُبدع وتبتكر، لا أن نحصرها في تجربة فاشلة أو ذكرى مؤلمة أو حالة نثبّت فيها ما نشعر به من ألم وقلق وكراهية وبغض، ولا نحاول أن نتجاوزها إلى ما هو أفضل من ذلك وأكثر إفادةً وسعادةً وحقيقةً ويقيناً.
إن من يصارع ويستمر في الصراع لمجرد الصراع وبدون غاية سوى الصراع هو إنسان يحتقر ذاته لأنه لا يرغب إلا في أن يحرقها ويُوثقها ويسلسلها بسلاسل الحقد والضغينة، لا أن يحررها ويطلق سراحها في فضاء الحياة الطليق.
إننا إذا استسلمنا للدورة الخبيثة والحلقة المفرغة للعنف والكراهية والانتقام، وصرنا نحتقر أنفسنا ونوكل إليها أن تفعل كل ما هو حقير لكي يُرضي الذات الأنانية الانتقامية التي داخلنا، إننا بالقطع سنجد أن هذه النفس، التي احتقرناها ووضعناها في هذا الطريق، صارت تنتفض ضدنا، وتحتقرنا، وتنفي قيمة كل شيء حولنا، وتحيطنا بالندم والخذلان والحزن... ومن هنا، تأتي بذور الاكتئاب التي نحن نزرعها بأنفسنا ونجني ثمارها المرّة.
إن الحياة ليست معركة، لأن ساحات التفاعل مع الآخرين ليست بالضرورة ساحات قتال... إن الحياة هي رحلة يمكن لنا أن نجعلها سعيدة أو أن نجعلها تعيسة.. إنها رحلة نحدد لأنفسنا فيها مسارنا، ثم نستعين بالله على خوض غمارها، ولكنها ليست بالضرورة حلبة قتال نصارع فيها غيرنا، فنجد أنفسنا نصرع ذواتنا ونهينها وننقض عليها ونحن نحاول أن نأخذ لها حقلها من هذا العالم الذي افترضنا فيه أنه ظالم وبائس وتعيس، فلم يظهر لنا منه إلا ما هو ظالم وبائس وتعيس.
إن علينا أن نحيا الحياة التي نرى أننا نستحق أن نمنحها لأنفسنا، لا الحياة التي نفرض فيها عذاباتها ومآسيها على أنفسنا، ثم نتحسّر على ما ضاع منها وما لاقيناه فيها... إن "سعادة الإنسان" تكون معه دائماً في قلبه وفي عقله وفي ذهنه وفي وجدانه وفي شعوره، وهي كلها رهنٌ بأن نكون جميعا واعين بما نستحقه نحن، قبل أن نكون راغبين في أن نعطي الآخرين – أو نفرض عليهم – ما يستحقونه هم من نصيبهم من العذاب والشقاء والتعب والهمّ والحزن الذي أصابنا، حتى صرنا نصيبهم به، عن قصد أو غير قصد وبوعي أو دون وعي...
إن الحياة تعطيك بقدر ما تعطيها وتمنعك بقدر ما تمنع عنها... هي رحلة، هي مشاركة، هي تجربة، هي مسار يسع الجميع، والغريب فيه من يريد أن يسير فيه وحده.