"إذا أردت أن تخسر الناس، صارحهم... وإذا أردت أن تكسب الناس، نافقهم"... كثير من الناس يعيشون بهذا المبدأ ويرجّحون النصف الأخير من الجملة، بحيث تصير الدنيا من حولهم هي بحق "أرض النفاق".
وهناك آخرون يقفون في المابين، يراوحون حول سؤال: أقول (الحقيقة) أو لا أقول؟.. وتصير بالنسبة لهم "تلك هي المسألة"، وهي "المعضلة"، وهو "السؤال"... وبالقطع هناك من يتأرجح بعض الوقت، وهناك من يستقر في جانب الصراحة مع ما لهامن تكلفة، من يستقر على جانب النفاق طمعاً في فوائده...
أما غالب الناس فإنهم يجمعون بين هذا وذاك بنسب متفاوتة، بحسب السياق العام الذي يجدونه، والظرف الذي يواجهونه، والموقف الذي يعيشونه، والبيئة التي من حولهم. الكثير يحاول أن يقول نصف الحقيقة، أو ثلثها، أو ربعها، أو أقل من ذلك، في محاولةٍ للحافظ على مصالح ظرفية مؤقتة وزائلة، مع التضحية بالقيم الكبيرة التي كنا نسميها الصدق، والصراحة، والأمانة، وابتغاء الحقيقة، وقول الحق وإرضاء الضمير...
المشكلة هي أن ذلك الشيء الناتج عن الجمع بين الحقيقة والادعاء، وبين الحق والباطل، وبين الصراحة والمداراة، وبين الاتساق والنفاق... هذا الشيء الناتج عن الجمع بين النقيضين لا يرتاح له أحد، ولا يحبّه أحد، ولا يقبله أحد، والأدهى من ذلك كله والأخطر أنه لا يخدع أحداً، فالكل يكشف – بدرجة أو أخرى – ويعلن – بدرجة أو أخرى – عن معرفته وإدراكه لهذا "الكذب" الذي نتداوله في كل حديث، ونستخدمه في كل موقف، بل ونتنفسه في كل لحظات حياتنا.
المشكلة الأكبر هي أن غالبية الناس، معظمهم، القاسم الأكبر منهم، صاروا على حالة من "إدمان الكذب" و"إدمان النفاق" و"إدمان التحايل" و"إدمان التصنُّع والتكلُّف"، بدرجة لا يستطيعون معها الاستغناء عن كل ذلك ولا العيش من دونه... صاروا يتبادلون الكذبات، والتحايلات، والمجاملات، والادعاءات دون أدنى حساسية، ومن غير أي حرج، وبنوعٍ من اللامبالاة، والسلبية الذهنية، والسيولة الأخلاقية غير المسبوقة. وبسبب ذلك، سقط الجميع في نظر الجميع... سقط الزوج من نظر زوجته والزوجة من نظر زوجها... صار العادي أن تقول النساء أن جميع الرجال سفلة ومنحطين وشهوانيين، وأن يقول جميع الرجال أن جميع النساء محتالات استغلاليات وصوليات وذوات نوايا خبيثة. سقط الوالد من نظر ابنه وسقط الابن من نظر والده... سقط المدرِّس أمام التلميذ باعتباره مجرد قنّاص لفرص الدروس الخصوصية، وسقط التلميذ في عين المدرس باعتباره مجرد شخص يريد النجاح دون مذاكرة، ويمارس الغش لينجح بدون مجهود، وغايته أن يشتري الشهادة بأموال والده أو عائلته.
لماذا تراضينا على قبول كل هذا الهراء؟ لماذا تساهلنا حتى وصلنا لهذه الحال؟ ما الداعي أن يقول أي أحد أي شيء طالما أن الآخر الذي أمامه يعرف أن هناك نسبة أو مساحة أو مستوى معين من ’الكذب‘ سيكون فيما يقول، وطالما أن الطرف الآخر يتوقع ذلك، ولا يصدق المتكلّم في أي شيء يقوله؟
الناتج الحتمي للتهرب من"قول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة" هو ذلك السقوط الذي نعايشه ويجعلنا لا نستطيع أن نحسّ بطعم الحياة أو بهجتها، وصرنا نتحسّر على أيام البراءة الأولى، وصراحة ونقاء طفولتنا، مع أن أطفالنا – الذين كبروا مع كل هذا الكذب ووسط بيئته وظروفه ومجاله – صاروا يُظهرون براعةً في النضج المبكر واتقان الكذب والادعاء والتكلف والرياء، وسط حالة من إعادة إنتاج ما تشوَّه فينا بمستوىً أعلى وأعمق فيهم، بمساعدة السوشيال ميديا وثورة الاتصالات.
إنها معركة خاسرة يخسرها الجميع عندما يهرب الجميع من سؤال الحقيقة، ولا يترددون في الإجابة عن سؤال: "أقول أو لا أقول الحقيقة" بالقول: "وأيّ حقيقة؟ وأين الحقيقة؟ الحقيقة نسبية، متفاوتة، متغيرة، متلونة، تتشكل بحسب السياق، وبحسب المصالح، وبحسب الدوافع، والفرص، والخطط، والاستراتيجيات التي نضعها... هل انتهينا إلى تراضي الجميع عن حالة عدم احترام أحدٍ لأحد؟ هل انتهينا إلى قبول الجميع بأن لا أحد يستحق أن نحترمه أو نصدقه أو نستمع إليه باهتمام؟ لابد وأن القليلين سيستبقون ما بقي لهم وللإنسانية من القيم والمبادئ والأعراف السليمة والأصول المرعية، ليكون جوابهم: بل أقول الحقيقة.. وأنتصر للحق.. واكتسب احترامي لنفسي وثقتي بها، وأؤكد لنفسي ولغيري أن الكذب والخداع والرياء لن يحمل أي خير، ولن يصل إلى أي شيء ذي قيمة، وسيكون ثمنه وتكلفته أكبر بكثير من أي مكسبٍ أو أي عائدٍ ننتظره... سيبقى الحق في مكانه المُستحقّ وستبقى القيم في علوّها السامي... وسيبقى دائماً صوت يقول للنفس الشرسة المغرورة المتغطرسة "لا.. لا.. لا.. لا تكذبي..." مهما كان الثمن.