وإني معلق بحب بلدي، تعلق الغصن بالشجرة، وأنا في ذلك كالمسافر في الشجن، الذي تتقاذفه الانفعالات وتهيّج ذاكرته يوما بعد يوم، فيدرك قيمة "الصحب" والعائلة على مدار أنفاسه، وتسكنه المحبة وتلفه العادات بطول حركاته وسكناته، فلا يلتفت ولا يعرى، ولا ينكر أو يكفر في حب مصر.
وأنا – فوق إحساسي الشخصي المنزه – أحمل واجبا تجاه الوطن، فأنا مطالب بألا أغدر به أو أغادره، أو أعظم شيئا أمامه، حتى لو كنت أراه متغذيا على روحي.. لكني عندما رأيت بعض الفنانين، دون مسمى، يكيلون جحودا لوطنهم الأم، أشفقت على نفسي من نزغات الأذى إشفاق المتخبط من تخبطه، وتخوفت من مستقبل النشء ووطنيته المهددة، تخوف المحكوم من غيابات السجون.
رأيت أشكال هؤلاء الفنانين، طلاتهم وكلماتهم، فأصابتني قشعريرة حنين للبلاد رغم عدم مغادرتي لها، وتقلصت حواسي ألما، وأربكتني المشاعر، وعذبتني الاحتمالات، لكني عندما استشعرت ذلك سارعت بتلمس الأماكن والتشبث بكتف أخي، أستجلب منه دفء المأوى، وأمل الشفاء من كير «قلة الأصل» والتعريض بالوطن.
وإني متماهٍ في حب مصر، ليس لأنها وطن الإجبار لي، أو لأن القدر ساقني لها ساكنا ومقيما، وإنما أحب جلستي فيها حبا متجردا، لا غايات فيه، ولا أسباب، وعليه فإني لا بد وأن أشعر بأنها مصدر فخري وعزي ومنبع «الكرم والأخلاق والكرامة»، دون غيرها من أركان الكوكب وجنبات الدنيا، وإني في تلك المشاعر لملتحف بالفطرة، فلا مشاعر استثنائية فيما أقول، ولا مبالغة فجة أو تملق أو نفاق، بل إن تجاوز فضل الأم على الابن، هو ما يخالف فطرة الميلاد وإرادة الله.
وأقول بدافع الغيرة على بلادي، التي أرى أن من أحبوها أولى بترابها، وأحق برحابها، إنه «لا وطن لمن باعه لقاء أمور صغيرة ومصالح ضيقة ومعاش محدود القيمة، لا مصر لمن لم يمنحها قدرها وحمل في صدره قيمتها، ورسم على قلبه وجهها (نخيلا ونيلا وشعبا أصيلا)».