وسط انشغالنا في قضايا تتعلق بلقمة العيش تنتهز تركيا فرصة الحرب في السودان لتقترب مجددا من وادي النيل الذي غادرته مرغمة مع بداية الحرب العالمية الأولى وبعد إعلان السلطان حسين كامل سلطانا على مصر ونهاية الحقبة الخديوية بعزل الخديوي عباس حلمي الثاني، وتكرار ظهور المسيرة التركية البيرقدار على مسرح العمليات في الحرب بين الجيش السوداني وبين ميلشيات الدعم السريع يؤكد أن صانع السياسة التركية عازم بكل قوته، ليس فقط على أن يكون طرفا في الاحداث الجارية حاليا في السودان، بل على أن يكون له تواجد في المرحلة التي تلي انتهاء الحرب في السودان ، خاصة وأن طائرات البيرقدار المسيرة قد تحولت من مجرد طائرة تستخدم في القتال أو الاستطلاع إلى احد ادوات السياسية الخارجية التي يستخدمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
هزيمة الدعم السريع ومسار حميدتي في عكس التاريخ
وليس من قبيل التخمين أن نقول إن هزيمة حميدتي ومليشيات الدعم السريع هى مجرد مسألة وقت، حميدتي يحارب في عكس منطق التاريخ، فقد انتهت الفكرة القديمة التي يقوم فيها شخص باستجماع قوات لبناء مجد شخصي على حساب دولة حديثة قائمة بالفعل، لن يستطيع حميدتي الاستمرار في لعبة الحرب أكثر من المدى الذي يمكن لداعميه الاستمرار في تزويده بالمال والسلاح والرجال، وهو مدى زمني لن يطول لأن قوات الدعم السريع ليس فقط قد خسرت حاضنتها الشعبية التي حاولت التأسيس لها قبل الحرب، بل لأن الجزء الأكبر من هذه الحاضنة الشعبية قد تحول بالفعل لتيار شعبي رافض لها، وهو يرى حميدتي لا يتورع عن أن يستقدم مرتزقة من جنسيات مختلفة، للقتال في العاصمة الخرطوم نفسها، عاصمة اللاءات الثلاثة الشهيرة والتي كانت دوما القلب النابض للصمود في أحلك الظروف التاريخية التي مرت بوادي النيل.
تركيا تقترب من وادي النيل
السودان الحبيب وعاصمته المثلثة ومطامع ما بعد الحرب
سوف تنتهي الحرب بكل تأكيد وسوف ينتصر الجيش السوداني ويستعيد الشعب السوداني عاصمته المثلثة، هذا ليس من باب التخمين ولا الاماني ولكنها حسابات الجغرافيا والتاريخ، قد ينجح حميدتي في أن يطيل أمد الحرب قليلا أو حتى في أن ينقلها للأطراف والحدود، ولكن مهما بدا أنه متواجد في العاصمة الخرطوم سوف يضطر للخروج منها في نهاية المطاف، لن ينجح حميدتي ولا قواته في تأسيس حاضنة شعبية له وسط أهل الخرطوم وهم يرون أنه قد دمر عاصمتهم بمغامراته الفاشلة التي كان يتصور أنه سوف تنجح باعتقال البرهان وقادة الجيش في عملية سريعة توهم أنه قادر على أن يفرض بها واقعا جديدا تجعله حاكما تاريخيا للسودان على نمط سلاطين سنار، ولكن بعد انتهاء الحرب سوف يكون السودان الحبيب وعاصمته الخرطوم المثلثة مطمعا لكل من ألقى في بحر هذه الحرب العاصفة بحجر.
صانع السياسة التركية وعقلية اقتناص الأرباح
نحن لا نتصور أن صانع السياسة التركية بعقليته التي لا تعترف إلا بجنى الأرباح سوف يتنازل عن مكاسبه التي حققها بمقايضة طائرات البيرقدار المسيرة باتفاقيات غير مسبوقة، حتى في تاريخ تركيا الحديثة نفسها، مع السودان، وهى اتفاقيات قد يكون عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني قد وقعها وهو يعلم قادم الأحداث، وهو ما يبرر قرار البرهان بمنح تركيا 100 ألف هكتار أو ما يساوي مليار متر مربع مربع من الأراضي الزراعية وتشغيلها من قبل تركيا ، وهى مساحة تضاف إلى 30 ألف فدان بمخطط الدبة الزراعي تم تخصيصها في وقت سابق لصالح الشركة السودانية التركية، وهي شركة تمتلك منها الحكومة السودانية بنسبة 20% و80% لتركيا وتعمل في مجال الإنتاج الزراعي والحيواني ، وهو ما جاء ضمن 7 اتفاقية شملت مجالات شملت مجالات الطاقة و(الدفاع )والمالية و(الإعلام )، والحقيقة وإن كنا نفهم أن تتعاون تركيا مع السودان أو مع أي دولة في مجالات الطاقة والمالية، فلا نفهم كيف يمكن أن تتعاون تركيا مع أى بلد في مجال ( الدفاع ) بدون أن يكون لها( قوات ) أو ( خبراء ) أو على الأقل ( أسلحة وذخائر ) على الأرض في هذه الدولة، كما أن تعاون تركيا مع دولة تنطق بلغة أخرى خلاف لغتها في مجال الإعلام هو أيضا غير مفهوم .
تركيا ومزاعم الحقوق التاريخية في وادي النيل وغياب الحياء السياسي
أن السودان الحبيب حتى الآن قد فقد ملايين الأفدنة في التي منحت من جانب نظام البشير لدول وشركات خليجية وعربية لم تستثمر منها إلا القليل، واحتفظت الجهات والشركات التي خصصت لهم الأراضي يغالبها بدون استثمار للحصول بضمانها على قروض مالية من البنوك الخليجية، وإيداعها في حسابات استثمارية في بنوك خارج العالم العربي بكامله، هذا بخلاف نصف مليون فدان في مشروع الجزيرة، ومائتي ألف فدان في الشمالية ضمن اتفاقية تم توقيعها مع الصين لمدة 99 عاماً، ولكن كل هذه الاتفاقيات تصب في النهاية لصالح الشعب السوداني إن أحسنت الحكومات السودانية تنفيذ بنودها وهو ما نأمله ونتمناه، ولكن ما اقتراب تركيا من نهر النيل ليس استثمارا ماليا يخضع لحسابات الربح والخسارة، بل هو عودة تاريخية لتركيا لوادي النيل واقتراب جيواستراتيجي من نهر النيل يتفق مع خطوات سابقة لها مع أطراف أخرى من بلدان حوض نهر النيل ، فتركيا التي أرغمت على الخروج من وادي النيل لأسباب تاريخية تزعم أن لها حقوقا تاريخيا في هذه المنطقة وتعمل بلا أى حياء سياسي على أن تستعيد هذه الحقوق المزعومة، فانتبهوا أيها السادة !