في مثل هذه الايام ، في شهر ربيع الأول ، وفي مكة المكرمة ، الأرض المباركة ، التي جعلها الله مثابة للناس و أمناً وفي أجواء مليئة بالجهل والظلم ، وتحكم الغني بالفقير ، والقوي بالضعيف ، وانتشار العديد من الأمراض الاجتماعية فاقت مكة علي أنغام الاحتفال بمولد اليتيم ، ولم يكن يخطر ببال أحد آن ذاك، أنه منقذ البشرية ومعلمها ، ومخرجها من ظلمات الشرك الي نور التوحيد ، ومؤسس الحضارة ، وقائم بين الناس بالعدل
ولد حبيبنا صلي الله عليه وسلم ، ليخرج الناس من حياة الذل والخضوع والضياع ، الي حياة العزة والمجد والكرامة.
فكان ميلاده أعظم إطلاله للرحمة الالهية ، حيث قال تعالي : " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " ، فكان ميلاده رحمة الي الدنيا ونور للعالمين
كان ميلاده صلي الله عليه إيذاناً بميلاد الايمان في قلوب المؤمنين.
كان ميلاده صلي الله عليه وسلم ، إصلاح للمجتمع وعلاج للأمراض الاجتماعية ، ووضع ضوابط لبناء مجتمع سوي ومستقر و آمن
يصور لنا ذلك سيدنا جعفر بن ابي طالب ، حين وقف خطيباً أمام ملك الحبشة ، حين جاء وفد قريش يطالب بعودة أصحاب محمد
قال : أيها الملك ، كنا قوم أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، و نقطع الأرحام ، و يأكل القوي الضعيف منا ، ونسيئ الجوار ، كنا كذلك حتي بعث الله رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه و أمانته وعفافه.
فأمرنا بعبادة الله وحده ، ونترك ما كنا نعبد و أبائنا من دون الله ، من الحجارة والأوثان ، و أمرنا بصدق الحديث ، و أداء الأمانة ، وصلة الأرحام ، وحسن الجوار ، والكف عن الأذى والمحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، و أكل مال اليتيم وقذف المحصنات
كان ميلاد النبي صلي الله عليه وسلم ، نعمة من الله علي المؤمنين ‘ قال تعالي : " لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ ".
فكان صلي الله عليه وسلم دائم الانشغال بأمته ، حريص عليهم وبهم رؤوف رحيم يبكي ذات يوم فيرسل الله عز وجل اليه أمين الوحي جبريل ، يسأله عن سبب بكاؤه صلي الله عليه وسلم ، و هو أعلم ، فيقول النبي أمتي أمتي ، فيأتيه جبريل مرة أخري يقرأه من الله السلام ويقول له ، إن الله يقول لك أنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك ، فتطيب نفس النبي فرحأ لأمته صلي الله عليه وسلم ميلاد النبي صلي الله عليه وسلم ، كان ايذاناً بحلول البركة بين المؤمنين.
ففي غزوة الخندق ، حيث اشتد الجوع بالمسلمين ، يري جابر بن عبد الله أحد الصحابة ، وقد بلغ منه الجوع مبلغاً ، يأتي النبي صلي الله عليه وسلم ، يشكو اليه شدة الجوع ، ويرفع الثياب عن بطنه ، فاذا به يربط حجراً علي بطنه من شدة الجوع فيبتسم النبي صلي الله عليه وسلم ، ويكشف ثيابه فاذا به يربط حجرين علي بطنه حيث كان صلي الله عليه وسلم أشد منهم جوعاً فيحزن جابر لحال رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ويذهب الي زوجته مسرعا ، يسألها ما عندنا من طعام ؟ فتقول دجاجة وبعض من الشعير ، فيأمرها بتجهيزه لإطعام رسول الله ، ثم ذهب اليه وهمس في أذنه صلي الله عليه وسلم ، غذاءك عندنا ، فقال النبي صلي الله عليه وسلم ، وحدي يا جابر ، فعلم جابر أن سؤال رسول الله صلي الله عليه وسلم ، مستنكرا أن يأكل ويترك أصحابه ، ولكن الطعام قليل لا يكفي ، فقال جابر ومعك رجل أو رجلين يا رسول الله ، فقال النبي صلي الله عليه وسلم ، ما طعامك يا جابر ؟ قال دجاجة وبعض من شعير ، فنادي النبي صلي الله عليه وسلم ، يا معشر المهاجرين ، يا معشر الأنصار ، يا أهل الخندق ، غذائنا عند جابر ، ثم قال لجابر اسبقنا الي البيت ، فاسرع جابر الي البيت ينادي علي زوجته ويقول أدركيني ، أدركيني ، رسول الله قادم ومعه الجيش ، فقالت أأخبرته عن ما لدينا من طعام ؟ قال نعم ، قالت اذاً لن يضيعنا الله.
و حضر النبي والصحابة الي بيت جابر، وكانوا نحو الف وخمسمائة صحابي ، وقال النبي صلي الله عليه وسلم أنت بوابنا اليوم يا جابر ، أدخل علي عشرة عشرة ، وببركة رسول الله أكل الجميع ، وخرج رسول الله يدعو لجابر و أهل بيته ، ويأمر جابر بأن يدخل ليأكل هو و أهل بيته ، فاذا بجابر يدخل ليري أن الطعام كما هو ، لا ينقصه الا نتشة من دجاجة ببركة النبي صلي الله عليه وسلم ميلاد النبي صلي الله عليه وسلم ، كان ترسيخاً لحسن الخلق ، فقد قال صلي الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق يجلس يوما في المسجد ومعه بعض الصحابة ، فاذا برجل يدخل المسجد ويتجه الي ركن به ويتبول ، فهم الصحابة ليزجروه ، فنهاهم النبي صلي الله عليه وسلم ، وقال لا تزرموه ، لا تحصروه ، لا تقطعوا عليه بولته ، دعوه حتي ينتهي ، ولما انتهي دعاه النبي صلي الله عليه وسلم ، وقال له ، إن المساجد جعلت للصلاة والذكر ولا يجوز أن يفعل بها ذلك ، و أمر الصحابة بأن يضعوا عليها الماء فقال الرجل ، اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحد، اللهم ارحمني ومحمدا ، لما رأي من رفق ولين وحسن معامله منه صلي الله عليه وسلم ، ولا ترحم معنا أحد لما رآه من غلظة من الصحابة ميلاد النبي صلي الله عليه وسلم ، كان نموذجاً عملياً لكل خلق حسن ، فكان صلي الله عليه وسلم قدوة في كل شيئ ، أسوة في أقواله و أفعاله ، فاذا أمر بخير كان أسبق الناس و أسرعهم الي تنفيذه ، و إذا أبلغ شيئاً من الوحي ، كان أول من يلتزم به كان أشد الناس زهداً وورعاً وعبادة وتقوى ، و أعظمهم شجاعةً ومروءةً وكرماً ، و أكبرهم تضحية ، وبذلاً وفداءً ، و أكثرهم صبراً ، وحلماً وعفواً في ذكري ميلاد النبي صلي الله عليه وسلم ، ليتخيل كل منا ، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ضيفه الليلة
رسول الله ضيفك الليلة ، فكيف تستقبله ، كيف تستقبله وقد هجرت سنته ، كيف تستقبله ، وقد اعتدت المعاصي والذنوب و قد قصرت في جنب الله
كيف تستقبله في بيتك ؟ وقد علت الأغاني الصاخبة بكلماتها الخادشه في كل أركان المنزل
كيف تستقبله في بيتك ؟ وشاشات التليفزيون تعمل ليل نهار في عرض المشاهد الخارجة والمناظر الفاضحة
كيف لو سألك عن حالك مع الله ، فبماذا ستجيب
كيف لو سألك عن حالك مع الصلاة المكتوبة ؟ وهل تصليها في اوقاتها وفي المسجد ؟ بماذا تجيب وقد ضيعناها و أهملناها ؟
كيف لو سألك عن حالك مع القرآن ؟ و قد أصبح القرآن في منازلنا للزينة فقط ، وليتنا قدرناه حق قدره ، بل اعتلاه التراب
كيف لو سالك عن وردك من القرآن في كل يوم وليلة ، فبماذا ستجيب ؟ أم ستكون ممن شكاهم النبي صلي الله عليه وسلم الي ربه فقال : " يارب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا "
كيف لو سألك عن صلة الارحام ؟ وقد قطعنا أرحامنا وامتلأت المحاكم بالقضايا بين الأشقاء ، بل و بين الآباء و الأبناء
كيف لو سألك عن حالك مع جارك ؟ وقد سادت بيننا وبين جيراننا العداوة والبغضاء ، وهو الذي قال فيه صلي الله عليه وسلم : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت انه سيورثه "
كيف لو سألك عن برك بوالديك ؟ وقد عققناهم و أهملناهم
كيف لو سألك عن رفقك ورعايتك لليتيم ؟ وقد أكللنا اموالهم وقسونا عليهم ، فهي كالحجارة بل أشد قسوة
كيف لو سألك عن خلق الايثار ؟ وقد تربص بعضنا ببعض ، ينتظر الفرصة لينهش في الآخر ، وصار كل منا يستغل الآخر
كيف لو سألك عن ادائك للأمانة ، الأمانة في العمل ، وقد صار مبدأنا علي قد فلوسهم
كيف لو سألك عن امساكك للسانك ؟ وقد اعتدنا الكذب وقول الزور والغيبة والنميمة
ماذا لو سألك عن محافظتك علي الأوطان ، وعن دورك في نمائها
ماذا لو سألك عن مساعدتك للمحتاج ؟ ونصرتك للمظلوم والضعيف ؟
إن ما نحن فيه من خراب زمم ، وسوء خلق وفساد عقيدة ، وضلال وضياع وانحطاط ، بل إن كل سوء نعاني منه ، إنما هو نتاج تركنا لهدي المصطفي صلي الله عليه وسلم
و والله لا سعادة لنا في الدنيا ولا في الآخرة ، إلا باتباع هديه وسنته صلي الله عليه وسلم
هكذا قال المصطفي صلي الله عليه وسلم : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وسنتي "
في ذكري ميلاد المصطفي صلي الله عليه وسلم ، ما أحوجنا الي بيعة جديدة ، لنغير ما بنا من عقائد فاسدة ، وقلوب حاسدة ، وأطماع حاقدة ، و أمراض اجتماعية مفجعة ومهلكة ، ووجوه عابسة ، وقلوب متفرقة
وصدق الله العظيم حيث يقول " إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ "
فتعالوا نبدأ من الآن ، نبدأ عهداً جديداً ، نقتدي فيه برسولنا الذي تشرفت البشرية بانتسابه صلي الله عليه وسلم إليها
فالقدوة الحسنة ، اسلوب عملي في الدعوة ، بل هي أفضل الأساليب ، وقد كانت العامل الأكبر في انتشار الاسلام في عهد النبي صلي الله عليه وسلم والصحابة والسلف ، حيث لمس الناس الأخلاق الحسنة الكريمة في تصرفات ومعاملات المسلمين
فدعونا نري أخلاق الاسلام وهدي النبي في معاملتنا وسلوكنا مع الناس ، ليس بالكلام و حسب
في ذكري ميلاد النبي صلي الله عليه وسلم أسأل الله أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى
وكل عام وانتم بخير