الحقيقة أن أهم مغامرة صحفية في حياتي هي مغامرة بالمعايشة في أكبر قضية حقوقية شغلت الرأي العام في مصر وخارجها خلال فترة حكم مبارك. هذه المغامرة جعلتني في قلب أهم موضوع استقصائي (إجباري) أنا نشرت عنه في حياتي. وعلى الرغم من أن هذه القضية بالنسبة لي كانت كابوسًا دمر حياتي في ذلك الوقت، خاصة وأني كنت شابًا في هذا الوقت وحيدًا وقليل الخبرة، وأسرتي بسيطة لا قبل لها بمثل هذه المواقف، حتى أن أبي عجز عن أن يجد لي محاميًا يدافع عني. بعد أن لجأ إلى ابن عمه، وهو في مقام عمي وكان محاميًا بالنقض وقياديًا في الحزب الوطني الديمقراطي، ويشغل منصب أمين الشباب للحزب في محافظته، إلا أن عمي رفض الدفاع عني وحذر أبي من مصير من يثبت علاقاته بي بسبب الطبيعة الخاصة لمحاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم في هذا الوقت، ووجود حسني مبارك رئيس البلاد نفسه كطرف في مرمى اتهامات واضحة بأنه هو نفسه كان وراء هذه القضية التي فجرت غضبًا حقوقيًا حول العالم بحكم المكانة الدولية للمتهم الأول، وهو الدكتور سعد الدين إبراهيم، وبحكم أنه يحمل الجنسية الأمريكية، وأيضًا بحكم الأطراف التي جرى تداول أسمائها في القضية سواء على مستوى الأفراد أو مستوى المؤسسات الدولية وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. أسرار لن أكتبها أبدًا عن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم
لقد كانت الأسباب المعلنة من جانب دولة مبارك في ذلك الوقت أن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم لأسباب تتعلق بارتكابه جرائم مالية ونشر الشائعات والإضرار بسمعة البلاد. وخلال التحقيقات وجه رئيس نيابة أمن الدولة العليا في ذلك الوقت تهمة التخابر مع الولايات المتحدة للدكتور سعد الدين إبراهيم، وهي تهمة لا تزال موجودة في أوراق التحقيق. وبمجرد أن علم السفير الأمريكي بهذا الاتهام قام في نفس اليوم بزيارة غاضبة وتوجيه احتجاج شديد اللهجة ليس لوزير الخارجية ولكن لرئيس الوزراء في ذلك الوقت الدكتور عاطف عبيد، فتم الإطاحة في صباح اليوم التالي برئيس نيابة أمن الدولة العليا ونقله لمنصب قاضي في محكمة طنطا، وفهم الجميع أن رئيس نيابة أمن الدولة نال عقابًا من أعلى مستوى في الدولة، وصدر قرار الاتهام لاحقًا للدكتور سعد الدين إبراهيم بدون أن يشار في قرار الإحالة من قريب ولا بعيد لتهمة التخابر مع الولايات المتحدة.
أما على الجانب الآخر فقد ادعى فريق الدفاع عن الدكتور سعد الدين إبراهيم أن القضية بسبب كتابة مقال شهير لإبراهيم بعنوان 'الجملوكية' نشر في مجلة المجلة السعودية، وسعد الدين إبراهيم نفسه قال في أكثر من مناسبة أن هذا هو سبب غضب مبارك منه لأنه عرض في هذا المقال فكرة توريث الحكم من مبارك لنجله جمال. وفي أحسن الأحوال قال بعض المطلعين على كواليس القضية أن سبب المحاكمة هو حوار دار بين الدكتور سعد الدين إبراهيم وبين الأمير الحسن بن طلال وقت أن كان الأمير الحسن وليًا لعهد الأردن، وعندما نقل الحوار لمسؤول مصري كبير كان قرار الزج بالدكتور سعد الدين إبراهيم في قضية تدمر سمعته المالية.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. أسرار لن أكتبها أبدًا عن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم
وحتى هذا السبب الأخير وهو سبب غير معروف لكثير من الذين تابعوا القضية، ولم يعلن عنه أبدًا حتى وقد نشر هذا المقال، وأنا أول من يكشفه، لم يكن السبب الحقيقي وراء الغضب على الدكتور سعد الدين إبراهيم، وحتى مشروع القانون في الكونجرس الأمريكي حول تخصيص جزء من المعونة الأمريكية لتصب مباشرة في حسابات منظمات المجتمع المدني في مصر وعلى رأسها مركز ابن خلدون، الذي قيل في دوائر حقوقية أنه سبب الغضب على الدكتور سعد الدين إبراهيم، وهو سبب وجيه، لم يكن سببًا كافيًا لكل هذا الغضب الرسمي على إبراهيم. وظني أني أعرف السبب الحقيقي لمحاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم، وقد أخبرت الراحل الكبير بالسبب في لقاء منفرد بيني وبينه في مكتبه بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد الإفراج عنه وعن باقي المتهمين بعد فترة الحبس الاحتياطي وقبل بدء المحاكمة. وبالنسبة لي فإن هذا السر هو سر الأسرار الذي لن أكتب عنه أبدًا، وأنا على يقين لا يرقى له شك أنه سبب تفجير القضية كلها، وعندما استمع لي الرجل ردد كلمات تعني أنه لا يعلم من أين تأتيه السهام، ودعاني للغداء في مطعم الجامعة وعرض عليا معونة مالية تغطي تكاليف المحاماة، وقبلت دعوة الغداء بكل ترحاب وسرور، واعتذرت عن المال الذي كنت في أشد الحاجة إليه، وطلبت منه فقط باقي مستحقاتي عن العمل في إصدار مجلات المركز، وبعدها أرسلت له رسالة عبر مديرة مكتب جريدة إماراتية شهيرة في القاهرة، فرد الرجل على الرسالة بأحسن منها. لقد كانت قضية مركز ابن خلدون هي أخطر مغامرة صحفية يمكن أن أقوم بها في حياتي، وعلى الرغم أني كتبت بعد ذلك في صحف تمتد من البحرين شرقًا للمغرب غربًا، ومن السودان جنوبًا لأمريكا الشمالية وكندا شمالًا، لكن لم أجد نفسي أبدًا في قلب مغامرة صحفية مثل المغامرة التي كان من حسن حظي أن وجدت نفسي في قلبها بالرغم عني، وكان الدكتور سعد الدين إبراهيم هو المتهم الأول وسط عشرات المتهمين، وكنت أنا المتهم العاشر، فاستبشرت خيراً برقم 10 وقلت لنفسي: 'حسناً فأني بهذا الرقم صانع الألعاب'!
استغرقت التحقيقات والمحاكمات سنوات، قضيت منها 33 يومًا رهن الحبس الاحتياطي، وعانيت خلال السنوات التالية أشد المعاناة، وهي معاناة فسرتها تفصيلًا في كتابي 'مذكرات أب عاطل عن العمل'. لكن بعد مرور كل هذه السنوات يمكن أن أعتبر نفسي ذو حظ عظيم بأن ورد اسمي في قائمة المتهمين في قضية كان لها مثل هذا الزخم محليًا وعالميًا، وكان الرئيس مبارك يظهر في مواقف محرجة وهو يتعرض في كل مرة يدلي بتصريحات وسط مراسلين أجانب لأسئلة محرجة حول قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم ورفاقه. ولكن مبارك المعروف بعناده الشديد لم يكن ليترك ورقة سعد الدين إبراهيم تمر من يده بدون أن يستغله هذه الورقة إلى آخر لحظة، مع أنه في حقيقة الأمر أعطى خصومه، بل وأناسًا كانوا معه في دائرة السلطة، مبررًا أخلاقيًا على الأقل للعمل ضد مبارك، وبالفعل دفع مبارك ضريبة عناده وسجنه للدكتور سعد الدين إبراهيم فيما بعد، فخلال ثورة 25 يناير 2011، كان سعد الدين إبراهيم في واشنطن يجلس مع أصدقائه في المكتب البيضاوي بينما الرئيس الأمريكي باراك أوباما يدلي بتصريحه الشهير على الهواء بأن: 'على مبارك أن يرحل الآن'!
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. أسرار لن أكتبها أبدًا عن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم
وهنا أجد في يدي أدلة من خلال خبرتي بقضية الدكتور سعد الدين إبراهيم على خشونة التعامل في دائرة العمل السياسي، فعلاقة الدكتور سعد بحسني مبارك كانت على مستوى الأسرة، فقد كان إبراهيم هو راعي سوزان مبارك وهي طالبة يدرس لها وآخرين مادة الاجتماع السياسي وقت أن كان مبارك نائبًا للرئيس السادات، وحصلت سوزان مبارك على درجة الماجستير تحت إشرافه. وكان من الطبيعي أن ينفذ سعد الدين إبراهيم ليكون صديقًا مقربًا لأسرة مبارك بعد أن أصبح رئيسًا للبلاد من هذه العلاقة بعد أن يصبح مبارك رئيسًا للجمهورية، لدرجة أن اسم سعد إبراهيم كان من بين المرشحين في وقت من الأوقات ليكون رئيسًا للوزراء لولا أن جنسيته الأمريكية التي يحملها بجانب الجنسية المصرية خلقت لمبارك حرجًا في اتخاذ مثل هذا القرار.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. أسرار لن أكتبها أبدًا عن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم
وقد يكون الجيل الحالي من الشباب، ومن الصحفيين تحت التدريب الذين استهدف أن يصل هذا السرد إليهم ويقرأون هذه السيرة، لا يعرفون من هو الدكتور سعد الدين إبراهيم. فالدكتور سعد الدين إبراهيم، وقت نظر محاكمته في القضية الشهيرة التي ارتبطت باسمه، كان أهم عالم اجتماع يتحدث باللغة العربية في العالم، وهو صاحب الفضل في صك مصطلح 'المجتمع المدني'. ولهذا المصطلح وتداعيات صكه ثم إصدار مجلة شهرية تحمل اسم 'المجتمع المدني'، كنتُ دورًا لا يستهان به في إصدارها، سر عميق لن أفصح عنه في الوقت الراهن، لكنني نبهت الدكتور سعد الدين إبراهيم إليه في لقاء منفرد بيني وبينه في مكتبه بالجامعة الأمريكية، وظننت أنه انتبه لأهمية ما لفت نظري إليه، وهي ملاحظة سوف أضيفها إلى صندوق الأسرار حول هذه القضية. ولكن في ذلك الوقت، وكان قد تحدد موعد لعقد أول جلسة محاكمة للدكتور سعد الدين إبراهيم ورفاقه، لم يكن هناك من حل إلا انتظار ما سوف تسفر عنه الأحداث.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. أسرار لن أكتبها أبدًا عن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم
وحتى على المستوى السياسي، لم يكن الدكتور سعد الدين إبراهيم في أي وقت معارضًا لنظام الرئيس مبارك. وكل مستشاري مبارك، حتى خلال المحاكمة وقبل المحاكمة، كانوا من أصدقاء الدكتور سعد الدين إبراهيم. بل إن مجلس أمناء مركز ابن خلدون وقت القبض على الدكتور سعد ومحاكمته كان يضم اثنين من الوزراء في الحكومة القائمة في ذلك الوقت. وألفت هنا إلى أن شهادات شهود النفي، وحتى شاهد الإثبات في القضية، خلال جلسات المحاكمة المغلقة، تضمنت أسرارًا مذهلة ومدهشة. وأنا على يقين من أن هناك من دقق في أوراق القضية قبل أن تكون، بحكم سير الإجراءات، متاحة لمن يطلبها، حتى يتأكد من خلوها لهذه الأسرار المذهلة. ومن جانبي، سوف أكتب بعض هذه الأسرار، ولكن هناك أسرارًا أخرى لن أستطيع كتابتها. كما أني شخصيًا لدى أسرار (مختلفة) لا أظن أني سوف أكون قادرًا على كتابتها أبدًا. فالرجل الآن في رحاب الله تعالى، وسوف أغلب الظن بأن الراحل الكبير، الذي حصل على البراءة في نهاية المطاف، كان حسن النية في معظم الأحيان. لكن في كل الأحوال فإن الاتهامات التي وجهت إليّ وللدكتور كانت بلا أساس قانوني، ولكن يمكن القول إن هناك حقائق خافية أزعم أني واحد من بين أشخاص معدودين أعلم بعضها. وكان الهدف منها تشويه سمعة الدكتور سعد الدين إبراهيم وأن السهام الموجهة له كانت تصدر من أعلى المناصب في الدولة.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. أسرار لن أكتبها أبدًا عن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم
حصل الدكتور سعد الدين إبراهيم حصل بعد سنوات قضائها في السجن على البراءة من كل الاتهامات الموجهة له بما في ذلك الاتهامات التي تتعلق بذمته المالية، وهو الآن في رحاب الله أعدل العادلين، وعلى الرغم من ما بدا من التهافت القانوني للقضية على مستوى الأوراق، إلا أنه كان هناك خارج الأوراق ما يؤكد لي ما أخرجه علي بن حجر في 'أحاديثه' (94) عن إسماعيل بن جعفر، واللفظ له. وعفان بن مسلم في 'أحاديثه' (89)، وأبو داود في 'الزهد' (54) عن موسى بن إسماعيل، كلاهما: عفان وموسى عن حميد عن أنس أن عمر رضي الله عنه قال: 'أتي بشاب قد حل عليه القطع، فأمر بقطعه، قال: فجعل يقول: يا ويله، ما سرقت سرقة قط قبلها، فقال عمر: «كذبت ورب عمر، ما أسلم الله عبدا عند أول ذنب».
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. أسرار لن أكتبها أبدًا عن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم
كانت جلسات المحاكمة بمثابة منصة لعرض معلومات مثيرة خارج سياق القضية بأكملها. وكان التداعي القانوني لأوراق القضية سببًا في دفع عشرات المحامين الذين تولوا الدفاع عن الدكتور سعد الدين إبراهيم ورفاقه للدفع بها لتكون محاكمة سياسية وليست قانونية. وبينما كان شاهد الإثبات شخصًا واحدًا هو الضابط الذي حرر محاضر الضبط، فقد ظهر بين صفوف شهود النفي أسماء بارزة، بعضهم قدم نفسه للمحكمة التي عقدت جلسات مغلقة بصفة لا يمكن ذكرها علنًا، بل وتقدم شاهد بارز من منصة القضاة بدون طلب أو حتى إذن من رئيس المحكمة وهمس بصوت خافت بعبارات غير مسموعة لغير الجالسين على المنصة، بعبارات أعرفها لن مسبقًا وتأكدت لي ليس فقط من خلال عملي الصحفي، بل من خلال أحاديث متواترة ومتطابقة مع رفاق الزنزانة خلال فترة الحبس الاحتياطي قبل المثول أمام المحكمة.
وفي السياق العام، وعلى الرغم من حملات التشويه والتغطية الإخبارية المنحازة في صحف الدولة، وحتى صحف الأحزاب التي تناصب سعد الدين إبراهيم العداء، فقد أطلعت في سن مبكرة جدًا على الوجه القبيح لنظام مبارك ووسائل إعلامه. حتى أن رئيس تحرير أكبر صحيفة حكومية في البلاد كتب مقالًا ينم عن خسة وهو يعنوان المقال بعبارة لا تصدر إلا من زوجة لزوجها، في إشارة إلى أن قد وصل له تسجيلات خاصة تخص الحياة الشخصية للدكتور سعد الدين إبراهيم.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. أسرار لن أكتبها أبدًا عن محاكمة الدكتور سعد الدين إبراهيم
وقد تعلمت خلال هذه التجربة قيمة الحرية وضرورة الدفاع عنها حتى النهاية. لكن الحقيقة في هذه الفترة فقد تلقيت أهم درس صحفي في حياتي المهنية على الإطلاق، وهو الدرس الذي وعيته وطبقته في تجربة مهنية لي خارج مصر خلال عملي في وكالة أنباء شهيرة في بلد مغاربي. فأثناء المحاكمة، كنت ألتقي بانتظام بمراسلي الوكالات الإخبارية العالمية، الذين كانوا يتابعون القضية عن كثب بحكم الضجة العالمية التي صاحبت اعتقال الدكتور سعد الدين إبراهيم ثم حبسه. ومن خلال هذه التجربة، أدركت أن الأخبار العالمية ليست مجرد أحداث بعيدة عنا، بل هي جزء من حياتنا اليومية، وأن كل فرد منا يمكن أن يكون بطلًا في هذه الأخبار.