ads
ads

"الاستعراض الأخير" لإيهاب سالم: حضرت فلسطين قبل الختام فالتهبت أيادي الجمهور والممثلين بالتصفيق

محمد مختار
محمد مختار

في مساء هادئ على خشبة مسرح نهاد صليحة، داخل أكاديمية الفنون، حدث ما يشبه المفارقة الجميلة. عرض صغير، بإمكانات محدودة، لكنه خرج كبيرًا في معناه، عميقًا في أثره، كأنه أراد أن يقول إن الفن الحقّ لا يحتاج إلى زينة، بل إلى روح تؤمن بما تقدمه. كان ذلك العرض هو 'الاستعراض الأخير' للمخرج إيهاب سالم، الذي استطاع أن يصنع من ضيق الإمكانات لوحة فنية تفيض حياةً.

لقد علّمتنا التجربة المصرية أن المسرح ليس حكرًا على الموازنات الضخمة ولا على الأجهزة الفخمة، بل هو ابنة الصدق والوعي. وفي عرض 'الاستعراض الأخير'، كان الصدق بطلًا مطلقًا، لا يشاركه أحد البطولة. كل شيء فيه كان بسيطًا إلى حد التقشف، لكن هذه البساطة لم تكن ضعفًا، بل كانت اختيارًا واعيًا؛ لأن المخرج يبدو أنه آمن بأن الروح يمكنها أن تصنع ما تعجز عنه الأموال.

ايهاب سالمايهاب سالم

كان المشهد الأول كافياً ليضع الجمهور في حالة من الدهشة المطمئنة. ديكور قليل، وإضاءة محدودة، وموسيقى خافتة، لكن خلف كل ذلك كان نبض الشباب حاضرًا بقوة. الممثلون الذين صعدوا إلى الخشبة لم يكونوا مجرد مؤدين، بل مؤمنين بفكرتهم. أدّوا أدوارهم كما يؤدي المؤمن صلاته، بصدق داخلي لا يُدرَّس في المعاهد، بل يُولد من المعاناة والإصرار.

وربما كان هذا هو جوهر التجربة كلها: أن موهبة الممثلين الشباب عوّضت غياب الموارد المادية. كانوا يتحركون على الخشبة بخفة العارفين، وكأن كل واحد منهم يعرف مكانه في الصورة الكبرى التي رسمها المخرج. لم ينتظروا كاميرات، ولم يبحثوا عن تصفيق، بل صنعوه بأنفسهم من حرارة أدائهم.

من الصعب أن تميز بين ممثل وآخر، لأن كلهم شاركوا في بناء العمل من لحمهم ودمهم، وكلهم قدموا أدوارًا متكاملة تتقاطع وتتكامل. ولذا، كان قرار عدم ذكر الأسماء في غاية الحكمة، ليس تهرّبًا من الإشادة، بل حفاظًا على عدالة المشهد. ففي هذا العرض، كلهم أبطال، لا بمعنى المجاملة، بل بمعنى أن البطولة كانت جماعية، موزعة على كل حركة وإيماءة ونظرة.

ولم يكن عرض 'الاستعراض الأخير' مجرد حكاية على المسرح، بل كان مرآة لحكايتنا نحن؛ حكاية بلد يعيش أحيانًا بأقل الإمكانات، لكنه لا يتوقف عن الحلم والإبداع. كان العرض يقول ببساطة: إننا نستطيع أن نحيا حتى ونحن نعاني، ونستطيع أن نبدع حتى ونحن نحسب الخطوات.

هذه الرسالة الإنسانية كانت واضحة في كل تفصيلة. فالمخرج إيهاب سالم لم يقدّم مجرد عرض فني، بل قدّم فكرة عن معنى الفن ذاته: أن يكون تعبيرًا عن الإنسان في أضعف حالاته وأجملها في آن واحد.

ثم جاءت اللحظة التي جعلت العرض حدثًا لا يُنسى. في نهايته تقريبًا، قدم المخرج ممثلة شابة، وقال إنها من فلسطين. كلمة واحدة، لكنها حملت كل ما في القاعة من وجدان. ما إن نُطق اسم فلسطين حتى انفجرت القاعة بالتصفيق، تصفيق لم يطلبه أحد ولم يكن مخرجًا مسبقًا. كان تصفيقًا خرج من الأعماق، من ذاكرة الناس، من ضميرهم الجمعي الذي لا ينسى.

لم يكن التصفيق مجرد رد فعل على حضور ممثلة عربية شقيقة، بل كان تعبيرًا عن وجع طويل يسكن وجدان الأمة. حين قال المخرج اسم فلسطين، كأن المسرح كله تذكّر من يكون، وتذكّر أن الفن ليس فقط للتسلية، بل أيضًا للتذكير بأن هناك قضية ما زالت حيّة رغم كل محاولات النسيان.

حتى الممثلون على الخشبة صفّقوا، كأن اللحظة تجاوزت حدود العرض، وتحولت إلى مشهد وطني وإنساني في آن واحد.

هنا تحديدًا بدا المعنى الحقيقي للفن. فالفن، كما كان يقول أحمد بهاء الدين نفسه، ليس أن تنقل الواقع فقط، بل أن تضيء ما في داخله من معنى. وإيهاب سالم فعل ذلك ببراعة. لقد جعل الجمهور يعيش لحظة صدق نادرة، لا يمكن أن يخطط لها، لأنها ببساطة لا تُكتب في النصوص، بل تُولد فجأة حين يلتقي الإبداع بالضمير.

خرجت من المسرح وأنا أفكر: كم نحتاج اليوم إلى مثل هذه اللحظات؟

كم نحتاج إلى مخرجين شباب يملكون هذا الإيمان بأن الفن يمكن أن يكون رسالة، لا مجرد وظيفة؟ وكم نحتاج إلى مؤسسات ترعى هذه المواهب التي تثبت كل يوم أن الطاقة الإنسانية أغلى من أي ميزانية؟

'الاستعراض الأخير' ليس مجرد عرض ناجح، بل تجربة تعيد إلى الأذهان صورة المسرح الوطني في أزمنته الذهبية، حين كان الممثل يقف على الخشبة ليقول شيئًا حقيقيًا، لا ليظهر فقط. والحق أن هذا العرض يمكن أن يكون نواة لموجة جديدة من المسرح الجاد، الذي يعرف أن رسالته ليست الترفيه وحده، بل إحياء الحس الإنساني في زمن التبلّد.

ما فعله إيهاب سالم هو أنه أعاد إلينا الإيمان بالمسرح بوصفه أداة للوعي والوجدان. فقد جمع بين البساطة الفنية والعمق الإنساني في آنٍ واحد، وجعل من فرقة صغيرة نموذجًا كبيرًا لما يمكن أن تفعله الإرادة. لم يخضع لضغوط السوق، ولم يرضخ لإغراءات 'العروض التجارية'، بل قدّم عملًا ينتمي إلى مدرسة الفن الملتزم التي آمن بها الرواد، من يوسف وهبي إلى سعد أردش إلى جيل الشباب اليوم.

ولعل أجمل ما في 'الاستعراض الأخير' أنه حمل معنىً مزدوجًا. العنوان يوحي بالنهاية، لكنه في الحقيقة كان بداية جديدة. بداية لمسرحٍ يمكن أن يستعيد مكانه في وجدان الناس، لا بالديكور، بل بالقيمة.

في زمنٍ يكثر فيه الصخب ويقل فيه الصدق، كان هذا العرض أشبه بجرس صغير يذكّرنا أن الفن لا يُقاس بعدد الكشافات ولا بضخامة الإنتاج، بل بقدرته على أن يهزّ القلب ويفتح العين على ما هو أبعد من اللحظة.

حين انتهى العرض، وقف الجمهور يصفق طويلًا. ربما لم يكن يدري أنه لا يصفق فقط للممثلين، بل لنفسه أيضًا، لقدرته على أن يتفاعل، أن يشعر، أن يظل حيًا رغم كل شيء. وفي هذا، يكمن المعنى الأكبر.

ففي 'الاستعراض الأخير'، لم يكن المسرح مجرد خشبة، بل مساحة صغيرة من الأمل. مساحة قالت لنا إن الفن ما زال قادرًا على أن يجمعنا حول فكرة نبيلة، وإن فلسطين – حين تُذكر – ما زالت قادرة على أن توحّد القلوب قبل الكلمات.

وذلك، في رأيي، هو أعظم ما يمكن أن يفعله الفن: أن يجعلنا نتصافح بالتصفيق، لا بالكلام.

لقد خرجت من مسرح نهاد صليحة مقتنعًا أن المسرح المصري ما زال حيًا، وأن طالما هناك شباب مثل هؤلاء، ومخرجون يصرون على أن يجعلوا من القليل كثيرًا، فإن الفن في بلادنا لن ينطفئ أبدًا.

بل ربما، من بين هذه العروض الصغيرة، تولد النهضة القادمة التي تجعل المسرح يعود إلى مكانه الطبيعي: نبض الناس وصوتهم حين لا يجدون من يسمعهم.

وهكذا، كان 'الاستعراض الأخير' لإيهاب سالم ليس ختامًا لرحلة، بل افتتاحًا لجيلٍ جديد يؤمن أن الفن أمانة، وأن الكلمة الصادقة – على خشبة صغيرة أو في قاعة مزدحمة – تظل أقوى من كل شيء.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً