في حيّ من أحياء القاهرة العتيقة، في البساتين، وُلد حلم صغير لا يشبه أحلام أولاد الحارة العادية. لم يكن الحلم دراجة جديدة، ولا شهرة على “السوشيال ميديا”، بل كان خشبة مسرح… تلك المساحة التي تقف عليها الأرواح قبل الأجساد، ليولد الإنسان من جديد كل ليلة.
يوسف منتصر أبو مسلم، ابن السبعة عشر عامًا، لم يكن يعرف أن خطواته الأولى على المسرح ستغيّر حياته كلها. لم يخطط، ولم يتعلم في معهد، لكنه صعد إلى الخشبة كمن صعد إلى القدر.
أول مرة… ولم تكن الأخيرة
يقول يوسف: “كانت أول تجربة ليا قريبة… وده كان أول عرض وأول مرة أطلع على المسرح، لكن الحمد لله العرض نجح جدًا بالنسبالي.”
لم يكن النجاح في التصفيق فقط، بل في تلك اللحظة التي أدرك فيها أنه وجد مكانه في الحياة.
وقف يوسف على المسرح في مشهدين مختلفين، بدورين لا يجمع بينهما شيء سوى الشغف. لم يكن الأمر مجرد تمثيل، بل اكتشاف لذات جديدة، أقرب إليه من كل ما عرفه من قبل. وحين أُغلق الستار في نهاية العرض، لم يُغلق حلمه… بل بدأ للتو.
الوقوع… ثم النهوض
يبتسم يوسف حين يتحدث عن نفسه، لكنه لا يخفي شيئًا. يقول بصراحة طفلٍ ورجولة فنان:
“يمكن أنا فشلت في حاجات كتير في حياتي… زي الحب أو الصداقات أو حاجات معرفتش أوصلها، لكن الأكيد إني هفضل ورا حلمي في المسرح.”
هذه الجملة وحدها تكشف معدن يوسف الحقيقي. فكل فنان كبير بدأ من هنا: من خيبات صغيرة وصبر كبير.
الفشل في الحياة لا يعني شيئًا إذا نجحت في أن تظل مؤمنًا بنفسك، وهذا ما يفعله يوسف كل يوم.
في زمنٍ يهرب فيه كثيرون من مواجهة أنفسهم، يقف هذا الشاب على الخشبة عاري القلب، صادق المشاعر، يحاول أن يتقن كل دور كأنه حياته الأخيرة.
من “لولو” إلى الحلم الكبير
آخر أدواره كان شخصية “لولو” في استعراض حديث.
ربما لا يعرف الجمهور حجم التعب خلف الدور، لكن يوسف يعرف أن كل خطوة على المسرح كانت درسة جديدة في الإيمان.
لم يكن يردد الجمل فقط، بل يعيشها، يذوب فيها حتى يصير هو “لولو”، ويصير “لولو” هو يوسف.
ومن هنا تبدأ كل حكاية فنان حقيقي.
فتى البساتين… وصوت المسرح
كان يوسف طفلًا عاديًا في حيٍّ غير عادي.حيٌّ يعرف التعب ويحتفي بالرزق مهما كان صغيرًا.
لكنه منذ صغره، كان يرى العالم من زاوية أخرى: لم يكن يندهش من المال أو المظاهر، بل من الناس الذين يقدرون يعيشوا حياة تانية على المسرح، يضحكون ويموتون ويحبون ويخونون في ساعة واحدة، ثم يعودون إلى بيوتهم كما لو لم يحدث شيء.
كان المسرح بالنسبة له سحرًا خالصًا، وطقسًا مقدسًا لا يعرفه إلا المؤمنون به.
يوسف... أول مرة يقف تحت الضوء
في السابعة عشرة، وقف يوسف للمرة الأولى على الخشبة.
كانت التجربة تشبه القفز في بحرٍ بلا شاطئ، لكنه قفز دون خوف.
ارتجفت يداه، نعم، لكنه شعر بشيء لم يشعر به من قبل: أنه وُلد من جديد.
حين انتهى العرض، لم يسمع تصفيق الجمهور فقط، بل سمع تصفيق قلبه.
كانت تلك اللحظة هي العلامة التي لا تُمحى من ذاكرته.
قال لنفسه بعدها: “هو ده مكاني... هنا هعيش.”
منذ ذلك اليوم، صار المسرح بيته الثاني، بل الأول أحيانًا.
تعبه في البروفات لم يكن وجعًا، بل متعة خفية.
كان يعود منه مرهقًا، يعرق كأنه خرج من معركة، لكنه يضحك ويقول لأصدقائه:
“أنا لسه في البداية.”
فنان بلا ضجيج
في البساتين، صار الناس ينادونه: “يوسف الفنان”.
لم يقل عن نفسه ذلك، بل قالوه هم لأنهم رأوا فيه شيئًا مختلفًا.
لم يكن يلهث وراء الكاميرا، ولم يملأ “السوشيال ميديا” بصوره،
كان يؤمن أن الضوء الحقيقي لا يُشترى، بل يُنتزع بالتعب.
يوسف لا يبحث عن الشهرة السريعة، لأن الشهرة التي تأتي بسرعة، تتبخر بسرعة.
يريد فقط أن يعيش لحظة الصدق، تلك اللحظة التي يُطفأ فيها كل شيء من حوله، وتُسلّط عليه إضاءة المسرح، فيحس أن قلبه نفسه صار آلة موسيقية تنبض بالإيقاع.
حين ينسى العالم كله، ويتذكر فقط الدور الذي يؤديه، حين يبكي لأن الشخصية تبكي، لا لأنه يمثل البكاء... تلك هي لحظته المفضلة.
الفشل... الوجه الآخر للنجاح
يوسف لا يخفي ضعفه.
يعترف أنه فشل مرات كثيرة، في الحب، في الصداقة، وربما في الوصول إلى بعض أحلامه الصغيرة.
لكن الفشل بالنسبة له ليس النهاية، بل بداية درس جديد.
كل خيبة كانت حجرًا صغيرًا في طريق صعوده.
حين يتحدث عن فشله، لا يبدو حزينًا، بل حكيمًا أكبر من عمره.
يقول بابتسامة خفيفة:
“يمكن فشلت في حاجات كتير، بس عمري ما فشلت في حلمي.”
وهنا الفرق بين شابٍ يحلم وشابٍ يعيش الحلم.
يوسف اختار أن يعيش الحلم حتى وإن تأخر النجاح.
هو لا يركض وراء الضوء، بل يسير نحوه بخطى ثابتة، يعرف أنه سيصل في الوقت المناسب.
المسرح... بيت الإيمان
كل فنان حقيقي يؤمن بشيء يشبه الدين، وديانة يوسف هي المسرح.
يقول إن الخشبة أرض مقدسة، لا تطأها إلا القلوب الصافية.
حين يصعد إليها، يخلع عنه كل ما في الدنيا: حزنه، خوفه، حتى اسمه أحيانًا.
يصبح فقط “الشخصية” التي يؤديها.
ربما لهذا السبب أحب الناس تمثيله منذ اللحظة الأولى.
في عينيه صدق يشبه صدق الأطفال، وفي صوته رجفة تشبه خوف الحلم حين يبدأ.
إنه لا يتصنع شيئًا، ولا يزيف مشاعر، بل يعيش كل لحظة كما هي.
وذلك هو سر الفن العظيم.
من “لولو” إلى القادم
آخر أدواره كان شخصية “لولو” في استعراض حديث.
شخصية مركبة، تحتاج إلى خفة روح وعمق في آنٍ واحد.
ولأن يوسف لا يعرف النصف، أعطاها كل ما لديه من إحساس.
لم يكن يحفظ النص فقط، بل يحفظ نبض الشخصية.
كان ينام وهو يفكر فيها، ويستيقظ كأنه مازال يعيش داخلها.
ولما انتهى العرض، شعر أنه فقد صديقًا عزيزًا.
لكن هذه هي حياة الفنان: يعيش ألف حياة، ويفقد ألفًا، لكنه لا يتوقف عن الحلم.
يوسف... وملامح النجوم الأوائل
من ينظر إلى يوسف يرى فيه شيئًا من أحمد زكي حين بدأ، ومن نور الشريف وهو يحلم بدور صغير في مسرح الجامعة.
ليس في الشبه الجسدي، بل في الإصرار الصامت، والعناد الجميل، والإيمان بأن الفن ليس مهنة بل قدر.
في زمنٍ امتلأ بالضجيج، يظهر يوسف كصوتٍ هادئ، لا يصرخ، لا يدّعي، لكنه يثبت نفسه بالفعل لا بالقول.
يحضر التدريب في المواعيد، يحفظ دوره، يساعد زملاءه، ويستمع للنقد برحابة صدر.
يعيش كأنه تلميذ أبدي في مدرسة المسرح.
الطريق الطويل
هو الآن في السابعة عشرة، لكن في قلبه عمر فنانٍ كبير.
يعرف أن الطريق طويل، وأن من يسعى إلى النور لا بد أن يمشي كثيرًا في الظلام.
لكنه لا يخاف العتمة، لأنه يؤمن أن الضوء في النهاية ينتظر من يستحقه.
يقول يوسف لأحد أصدقائه يومًا:
“أنا مش عايز أبقى مشهور، أنا عايز أبقى حقيقي.”
وفي هذه الجملة وحدها، تكمن فلسفة يوسف كلها.
أن يعيش كما هو، لا كما يريد الناس أن يروه.
أن يظل صادقًا مع نفسه، حتى لو لم يفهمه أحد الآن، فالفن الحقيقي لا يُفهم في لحظته، بل يُكتشف بعد حين.
قصة إرادة تولد في زمن سريع
يوسف منتصر ليس مجرد شاب من البساتين يحب التمثيل.
إنه قصة إرادة تولد في زمن سريع، زمن ينسى الحلم إذا تأخر، ويملّ الصبر إذا طال.
لكن يوسف مختلف، يسير ضد التيار، ببطء الواثق، لا يتعجل الثمار، لأنه يعرف أن الشجرة التي تكبر بسرعة، تموت بسرعة أيضًا.
هو الآن يسير نحو المسرح كل يوم كما يسير العاشق إلى معشوقته، يحمل حقيبته الصغيرة ووجهه المتعب، لكنه يبتسم دائمًا.
ابتسامته تشبه وعدًا، وعدًا بأنه لن يتوقف.
قد يخسر الحب، وقد تبتعد الصداقات، لكن سيبقى شيء واحد لا يخسره أبدًا: نفسه.
فهو يعرف أن الفنان حين يخسر نفسه، لا يعود فنانًا، بل ظلًّا في الضوء.
وهكذا يمشي يوسف بين الناس بسيطًا كأي فتى من البساتين،
لكن في قلبه حلم كبير بحجم المسرح...
وفي عينيه ذلك البريق القديم الذي عرفناه يومًا في عيون الكبار حين بدأوا.
يوسف منتصر...
فتى من البساتين، لكنه وُلد ليقف تحت الضوء.
لا يهرول إليه، بل يمشي نحوه بخطى صامتة،
لأن النجم الحقيقي لا يُخلق في السماء، بل يُصنع على الأرض... فوق خشبة المسرح.