نجلس في مقهى سولافة… ذلك المكان الذي لا يصلح للثرثرة الخفيفة، لأن طاولاته تحفظ الأسرار أكثر مما تحفظ فناجين القهوة. أمامي صديقي محمد الحكيم، ينفث دهشته كما ينفث دخان سيجارته، ويقول فجأة كمن اكتشف قنبلة فكرية وسياسية من العيار الثقيل
— هل قرأت ما يكتبه الأستاذ محمد الصباغ؟ الرجل مندهشني… بل يخيفني بجرأته.
أبتسم. أعرف هذه النبرة. نبرة القارئ الذي تربّى على يقين واحد، ثم وجد من يهزّ هذا اليقين بلا رحمة.
وبينما كان محمد الحكيم يلتقط أنفاسه بعد جملته الأخيرة، دخلت سولافة المشهد دون ضجيج، السيدة السودانية صاحبة المقهى، بخطوات هادئة وواثقة، كأنها تعرف بالفطرة أن هذا المكان لا يقوم على القهوة وحدها، بل على ما يُقال فوق طاولاته من حكايات وآراء وهمسات. كانت تحمل صينية واسعة، تمرّ بها بين الزبائن، توزّع بابتسامة صافية أطباق الفيشار، ثم تضع أكواب الشاي والقهوة أمام كل واحد بعناية تشبه عناية أمّ تعرف أن أبناءها مختلفون في الطباع والميول، لكنهم يلتقون جميعًا حول رغبة واحدة: أن يتكلموا، وأن يجد كلامهم من يصغي إليه. في تلك اللحظة، بدا المقهى كأنه شريك صامت في الحوار، يقدّم ضيافته البسيطة ليمنح الأفكار مساحة أهدأ كي تُقال.
قالت لنا وهي تضع الطبق أمام محمد الحكيم:
— اتفضلوا… الفيشار سخن.
ابتسم محمد الحكيم، وتوقّف الحديث لحظة.
لحظة صغيرة، لكنها كافية لتذكيرنا أن التاريخ — بكل صراعاته ووثائقه — يُناقَش أحيانًا فوق طاولة خشبية بسيطة، وبين حفنة فيشار وكوب شاي، في مقهى تديره امرأة سودانية لا يعنيها عبد الناصر ولا الناصرية، بقدر ما يعنيها أن يخرج الزبائن وقد شبعوا… ولو قليلًا.
صورة افتراضية
عدنا للكلام.
لكن صوت الفيشار وهو يُلتقط من الطبق ظلّ يذكّرني أن أشدّ الأفكار صلابة، تحتاج دائمًا إلى مشهد إنساني بسيط كي تُحتمل.
يستطرد محمد الحكيم، وقد مال بجسده إلى الأمام كأنه يخشى أن يسمعه أحد غيري:
— الرجل يهدم بكل قوته ثوابت حفظناها عن فترة الناصرية. أشياء كبرنا ونحن نعتبرها مسلّمات وطنية… فجأة يأتي ويقلب الطاولة!
أتركه يقول ما يريد. ثم أرد بهدوء متعمد، ذلك الهدوء الذي يناسب المكان وينساب مع رائحة القهوة والنارجيلة :
— أنا شرفت بلقاء الأستاذ الكبير محمد الصباغ من حوالي ثلاثين سنة.
يرفع محمد الحكيم حاجبيه، فأكمل.
— كنت قد نشرت كتاب «هموم الأقباط» لسامح فوزي، وهو في التوقيت نفسه كان قد نشر كتابه «مصير الأقباط». عاتبني يومها، وقال إن طرح كتابي بكميات كبيرة في نفس وقت طرح كتابه أضرّ به.
أذكر أنني اعتذرت له فورًا، وأكدت له أن الأمر لم يكن مقصودًا. ولم أكتفِ بالاعتذار الكلامي؛ اشتريت منه كمية من كتاب «مصير الأقباط» نقدًا، لأثبت له أنني لا أستهدفه تجاريًا.
لكنني أخفيت عنه شيئًا…
أخفيت عنه ما كنت قد سمعته من مصادر قبطية ترى في كتابه «مصير الأقباط» موقفًا قاسيًا على الكنيسة. لم أفتح هذا الباب معه، ولم أُشر إلى الأمر من قريب أو بعيد، لا تهيّبًا ولا تراجعًا، بل بدافع احترامٍ لرجل أدركت منذ اللحظة الأولى أن الحوار معه يجب أن يبدأ من الفكر، لا من الاتهام.
لا أذكر على وجه الدقة كيف بدأ الاتصال بيننا بعد ذلك، ولا أيّنا بادر بالهاتف أو بالموعد. كل ما بقي عالقًا في ذاكرتي أنه دعاني إلى منزله، إلى مكتبه تحديدًا. دخلت المكان وأنا أشعر، بلا مبالغة، أنني طفل صغير يجلس أمام أستاذ كبير. لم أكن في حضرة ناشر يتقن صناعة الكتب فحسب، بل أمام رجل يمتلك، فوق أدوات النشر وخبرته المهنية، رؤية سياسية واسعة، وتجربة عميقة مع التاريخ والسلطة والصحافة، خبرة لا تُقرأ في الكتب بقدر ما تُحسّ في طريقة الكلام والنظر والصمت.
في دار الخيال التي كان يملكها، وجدت ثروة حقيقية: تجهيزات وأجهزة كانت نادرة في ذلك الوقت. وقال لي جملة لا أنساها:
— مؤلفو الدار شركائي… لكن ليس على الورق.
احترمته جدًا. واحترمت جنونه الجميل.
قلت له بصراحة ربما كانت قاسية:
— مشروعه لدار النشر لن يكتب له النجاح التجاري… لأنك مفكر ولست تاجرًا. والناشر يجب أن يكون تاجرا أولا قبل أن يكون مفكرا
اعتذرت فورًا عن صراحتي، لكن المفاجأة أنه وافقني الرأي.
هنا قاطعني محمد الحكيم:
— طيب… إذا كان يعرف كل ذلك، لماذا يغامر اليوم هذه المغامرة السياسية الكبرى؟ لماذا يهاجم الناصرية بكل هذه القوة؟
أشرب رشفة قهوة، وأقول بهدوء:
— لعل الرجل، وقد شغل أعلى المناصب في المجتمع الصحفي المصري، يعرف جيدًا ما لديه. يعرف أن في حوزته وثائق يمكنها أن تعيد كتابة التاريخ. وهو لا يريد أن يموت معها.
ربما أدرك أن الأجيال القادمة لن تقرأ.
فقرّر أن يجعلها تسمع.
أن يترك شهادته مصوّرة، محفوظة، واضحة… شهادة رجل عاش، واطّلع، وجمع ما يندر أن يجمعه شخص واحد من وثائق.
هو لا يكتب فقط ضد الناصرية، ولا مع أحد.
هو يكتب — أو يشهد — للتاريخ.
وأطفأ محمد الحكيم سيجارته ببطء، وقال كمن اقتنع على مضض:
— إذن نحن أمام مؤرخ عربي جديد… لا يطلب التصفيق ولا يحسب حسابات المكسب والخسارة، بل يطلب أن نسمع.
ابتسمت.
في مقهى سولافة، لا تنتهي الحكايات… لكنها تبدأ دائمًا من سؤال.