ads
ads

محمد مختار يكتب لكم من مقهى سولافة : الحاضر والماضي والمستقبل… وما فائدة قراءة التاريخ ؟

محمد مختار
محمد مختار

جلستُ مع صديقي محمد الحكيم في مقهى «سولافة»، ذلك المكان الصغير الذي يبدو للوهلة الأولى عابراً، لكنه في الحقيقة يشبه محطة قطار تتقاطع فيها الأزمنة. المقهى تديره سيدة سودانية بوجه صبور وابتسامة تعرف متى تظهر ومتى تختفي. تتحرك بين الطاولات بخفة من يعرف أن رزقه في الحركة، وفي يدها فناجين القهوة، وأكواب الشاي، ومع كل جولة تضع طبق فيشار مجاني، كأنها تقول للزبائن: خذوا طعم الحياة، حتى لو لم تقدروا على ثمنها كاملًا.

كان محمد الحكيم جالسًا أمامي، يضع سيجارته بين أصابعه بعصبية، يطرق بيده على المنضدة كما لو كان يستدعي محكمة عاجلة. قال لي فجأة، دون مقدمات، ودون أن ينتظر أن أُنهي رشفة القهوة:

— أنت تضيع وقتك يا محمد… تضيع وقتك في الحكايات.

ابتسمت، لأنني أعرف هذه النبرة. نبرة الرجل الذي يريد إجابة سريعة، حاسمة، مثل سعر في السوق أو رقم في نشرة الأخبار.

قال محمد الحكيم وهو ينفث دخان سيجارته:

— ما فائدة التاريخ في هذا الحاضر؟

ثم نظر إليّ نظرة المنتصر وأضاف:

— قل لي بصدق… هل قراءة التاريخ ستُخفض سعر كرتونة البيض؟ هل ستجعل كيلو الأرز في متناول اليد؟

وضعت فنجان القهوة على الطاولة ببطء. ليس لأنني أبحث عن إجابة، بل لأن التاريخ نفسه يحتاج إلى إيقاع. قلت له بهدوء متعمد:

— التاريخ ليس زرًّا نضغط عليه فتتغير الأسعار. التاريخ يا صديقي هو الدليل الذي يعلم الناس كيف يديرون حاضرهم، وكيف يعبرون إلى المستقبل دون أن يسقطوا في نفس الحفرة مرتين.

ضحك محمد الحكيم ضحكة قصيرة، ساخرة، وقال:

— كلام جميل… يصلح للمقالات، لا للحياة.

وهنا، تمامًا، بدأت المعركة الصغيرة التي تشبه معاركنا الكبرى: معركة بين من يريد الخبز الآن، ومن يعتقد أن معرفة طريق المخبز أهم من الرغيف نفسه.

قلت له:

— هل تعرف لماذا تتكرر الهزائم؟

لم ينتظر السؤال، وقاطعني:

— لأننا فقراء.

قلت:

— لا… لأننا ننسى.

سردت له قصصًا حقيقية، لا من كتب صفراء، بل من واقع الناس. حكيت له عن دول نهضت لأنها درست أخطاءها، وعن شعوب أعادت إنتاج كوارثها لأنها قررت أن الماضي عبء يجب التخلص منه. قلت له إن من لا يعرف كيف بدأ الاستبداد، لن يفهم كيف يعود. ومن لا يعرف كيف ضاعت الأرض، سيبيع ما تبقى منها بثمن بخس.

كان محمد الحكيم يهز رأسه، لا موافقة ولا رفضًا، فقط علامة رجل لا يريد الاقتناع. قال لي بحدة:

— كل هذا تنظير. أنا أعيش اليوم. أريد أن أعيش اليوم.

قلت له:

— ومن قال إن التاريخ ضد اليوم؟ التاريخ هو ذاكرة اليوم. مثل الإنسان الذي يفقد ذاكرته… هل يعيش؟ نعم. لكنه يعيش تائهًا، قابلًا للخداع في كل مرة.

تدخلت سولافة، وضعت طبق فيشار جديد على الطاولة، وقالت بنبرة عملية لا تعرف الفلسفة:

— يا جماعة، غيّروا الموضوع. خلّوا الكلام في شيء مفيد.

نظرت إليها وقلت، مازحًا وفي داخلي شيء من المرارة:

— حتى أنتِ يا سولافة؟ حتى أنتِ ترين التاريخ علمًا غير مفيد؟

صورة افتراضيةصورة افتراضية

ابتسمت سولافة، تلك الابتسامة التي لا تقرأ الكتب لكنها تقرأ الوجوه، وقالت بصدق صادم:

— أنا لا أعرف تاريخ ولا جغرافيا… أنا أعرف بس اليوم اللي أنا أعيشه.

سكتُّ. لأن كلماتها كانت أقسى من اعتراض محمد الحكيم. سولافة لا تحتقر التاريخ، هي فقط لا تملك ترفه. اليوم عندها ليس فكرة، بل معركة. إيجار، فواتير، زبائن، وربح قليل يجب أن يكفي الغد.

التفتُّ إلى محمد الحكيم وقلت:

— هل رأيت؟ سولافة لا ترفض التاريخ لأنها لا تؤمن به، بل لأنها لم تجد من يربطه بحياتها.

هنا فقط خفّت حدته. سحب نفسًا عميقًا من سيجارته، وقال بصوت أقل صلابة:

— ربما… لكنني تعبت من الماضي.

قلت له:

— وأنا تعبت من تكراره.

في تلك اللحظة، أدركت أن المشكلة ليست في التاريخ، بل في الطريقة التي نقرأه بها. نقرأه كمرثية، لا كدليل استعمال. نحفظ التواريخ ولا نفهم القوانين. نبكي على ما حدث، ولا نسأل: لماذا حدث؟ وكيف يمكن ألا يحدث مرة أخرى؟

غادرنا المقهى بعد قليل. سولافة تلوّح لنا بيدها، ومحمد الحكيم يسير صامتًا، وأنا أفكر أن هذا الحوار البسيط في مقهى صغير، يشبه تمامًا ما يدور في بلد كامل. بلد يسأل: ما فائدة الماضي؟ بينما يكرر أخطاءه بدقة مدهشة.

التاريخ لا يطعم خبزًا، نعم. لكنه يعلمك كيف لا تجوع مرة أخرى.

والسؤال الحقيقي ليس: ماذا يفيد التاريخ؟

بل: كم سندفع ثمن تجاهله؟

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
بث مباشر مباراة مصر وزيمبابوي في كأس الأمم الإفريقية (لحظة بلحظة)