أجلس مع صديقي محمد الحكيم في مقهى «سولافة»، ذلك المقهى الذي لا يشبه المقاهي، لأنه لا يبيع القهوة فقط، بل يبيع لحظة صدق. تديره سيدة سودانية باقتدار لا يحتاج إلى إعلان. تدور بين الزبائن بفناجين القهوة وأكواب الشاي، وكأنها تؤدي رقصة يومية مع التعب، ومع كل جولة تترك على الطاولات أطباق فيشار مجانية، لا تعرف لماذا تفعل ذلك، لكنها تفعل، وكأنها تقول: خذوا ما تيسر من الفرح.
وفجأة، ومن سماعة صغيرة معلقة في ركن المقهى، انطلقت أغنية لشعبان عبد الرحيم.
لم يحتمل محمد الحكيم. ضحك ضحكة ساخرة، تلك الضحكة التي لا تخرج من القلب بل من الغرور، وقال لسولافة محذرًا:
— احذري… لا تفسدي الذوق السوداني، كما أفسدت هذه الأصوات الذوق المصري.
رفعت رأسي نحوه فورًا. اعترضت بكل ما أملك من غضب هادئ. قلت له:
— أنت لم تكن عادلًا في حكمك على شعبان عبد الرحيم.
نظر إليّ محمد الحكيم وكأنه ينظر إلى رجل فقد عقله. قال بسخرية لاذعة:
— هل تعتبر شعبان عبد الرحيم مطربًا؟ فنانًا؟!
ابتسمت. تلك الابتسامة التي تسبق الجملة المستفزة. قلت له:
— لا… بل أعتبره مثقفًا حقيقيًا. مثقفًا عضويًا من الدرجة الأولى.
كاد محمد الحكيم أن يختنق من الضحك. هز رأسه، وقال:
— يبدو أنك تحتاج إلى طبيب، لا إلى قهوة.
دعوت سولافة للجلوس معنا. جلست، وهي لا تفهم تمامًا سبب الجدل، لكنها تحب الجدل. بدأت الحديث ببطء، كمن يعرف أن بعض الأفكار لا تُقال دفعة واحدة.
قلت:
— لنقل إن شعبان عبد الرحيم يحتاج إلى إعادة اعتبار.
بعد أكثر من أربعين سنة من محاولات إسرائيل اختراق المجتمع المصري ثقافيًا، ومحاولات التطبيع الناعم، والصلب، والمخادع… من الذي نجح في كسر هذه المحاولات؟ هل كان عبد الوهاب؟ هل كان المثقفون الكبار؟ أم كان مغنيًا قادمًا من المناطق العشوائية، لا يعرف المقامات، لكنه يعرف الناس؟
سكت محمد الحكيم قليلًا.
قلت وأنا أستعيد ذاكرتي:
— أنا عشت زمنًا رأيت فيه شبابًا مصريين يسمعون الأغاني العبرية. كانت موجة، نعم، لكنها كانت موجودة. رأيت الراديو العربي لإذاعة إسرائيل، وهو يسرق ألحاننا، يحرف أغنياتنا، ويجعل مطربين إسرائيليين يغنونها بالعبرية والعربية، بنفس اللحن، بنفس الإحساس المصطنع. كان ذلك سطوًا ثقافيًا كامل الأركان.
وتابعنا المشهد: مثقفون كبار، أسماء لها وزنها، بعضهم وقع في الفخ. قالوا: “لماذا لا ننفتح ثقافيًا؟ مصر وإسرائيل ليستا في حالة حرب!”
وكان السؤال الحقيقي: وهل الثقافة بلا ذاكرة؟ وهل الفن بلا موقف؟
ثم جاء شعبان عبد الرحيم. لا ببدلة، ولا ببيانو، ولا بأوركسترا. جاء بصوته المكسور، وبكلماته المباشرة، وقال ما لم يجرؤ غيره على قوله بتلك البساطة:
“أنا بكره إسرائيل”.
لم يقلها في ندوة، ولا في مقال نخبة. قالها في فرح شعبي. قالها في توك توك. قالها في ميكروباص. قالها طفل لا يعرف السياسة، لكنه يعرف الغضب.
قلت لمحمد الحكيم:
— هل تعرف ماذا فعل شعبان؟ جعل كل بيت في مصر، وكل شارع، وكل زفة فرح، تردد جملة واحدة. جملة لا تحتاج إلى تفسير ولا هوامش: “أنا بكره إسرائيل”.
كان عبد الوهاب عظيمًا، نعم. كان صوت الدولة، وصوت الذوق الرفيع، وصوت الصالونات. لكنه لم يكن صوت الشارع. لم يكن صوت الغضب الخام.
هنا تدخلت سولافة، وقد تحمست، وضحكت، وكأنها فهمت الفكرة دون شرح. كافأتني بطبق فيشار إضافي، وأعادت تشغيل الأغنية، وخرج صوت شعبان عبد الرحيم يملأ المكان:
“أنا بكره إسرائيل… وبقولها لو اتسأل
إن شاء الله أموت قتيل… أو أخش المعتقل”
لم أسمعها هذه المرة كأغنية، بل كبيان سياسي شعبي. بيان لم يُكتب في جامعة، لكنه وصل إلى ملايين.
واصل الصوت:
“بكره إسرائيل وبكره الدمار
بتعشق الخراب وبتكره العمار”
قلت لمحمد الحكيم:
— هل ترى؟ هذا ليس شعرًا، لكنه وعي. وعي بسيط، مباشر، لا يناور.
عبد الوهاب صنع الذوق.
شعبان صنع الموقف.
عبد الوهاب علّم الناس كيف يسمعون.
شعبان علّمهم ماذا يقولون.
والمفارقة القاسية أن كثيرًا من المثقفين الذين سخروا من شعبان، فشلوا في مواجهة الاختراق الثقافي، بينما نجح رجل واحد، بلا شهادة، في تحصين وجدان الناس.
سكت محمد الحكيم طويلًا. لم يعترف، لكنه لم يسخر. وهذه في حد ذاتها هزيمة صغيرة.
قال أخيرًا:
— ربما… لكن الفن يجب أن يكون جميلًا.
قلت له:
— والوعي يجب أن يكون صادقًا.
غادرنا المقهى، وصوت شعبان لا يزال يتردد. سولافة تلوّح بيدها، لا تعرف عبد الوهاب، ولا تعرف نظريات الثقافة، لكنها تعرف شيئًا واحدًا: الأغنية التي تجعل الناس يرفعون رؤوسهم، تستحق أن تُسمع.
وفي الطريق، فكرت:
ليس السؤال من هو الأفضل فنيًا.
السؤال: من كان أكثر تأثيرًا في لحظة تاريخية فارقة؟
وفي ميزان الوعي…
قد يرجح صوت مكسور، على لحن كامل.
تتحمس سولافه وتقوم لتجلب لي طبق فيشار إضافي وتعيد تشغيل أغنية شعبان عبد الرحيم وتنطلق كلماتها :
انا بكره اسرائيل .. وبقولها لو اتسأل
انشاالله اموت قتيل .. او اخوش المعتقل
بحب حسنى مبارك .. عشان عقله الكبير
لو خط اى خطوه .. بيحسبها بضمير
بكره اسرائيل وبكره الدمار .. بتعشق الخراب وبتكره العمار
بحب ياسر عرفات .. وغالى يا ناس عليا
وشعب مصر حزين .. الدمعه رايحه جايه
بكره اسرائيل .. وشمعون ويا شارون
وبحب عمرو موسى .. بكلامه الموزون
ايه ذنب الاطفال .. اللى يوماتى تموت
ناس ماسكين سلاح .. وناس ماسكين نبوت
وبكره اسرائيل .. واحنا كلنا
والكل زعلانين .. ده القدس تهمنا
الدره لما مات .. الريس كان حزين
وقالها فى الجرايد .. مين يرضى الظلم مين
بكره اسرائيل .. واكره ايهود باراك
عشان دمك تقيل .. والناس كلها كرهاك
طول عمر مصر راسيه .. وبتستحمل كتير
لكن لما تغضب اهى سحبت السفير
بكره اسرائيل .. واسأل دم الشهيد
واسأل اللى عبرو .. اكتوبر المجيد
وبكره اسرائيل .. عشان جنوب لبنان
والقدس والعراق .. وسوريا والجولان
صورة افتراضية