ads
ads

تعانق المئذنة و القبة: زواج المعنى وميلاد الروح في عمارة المساجد .. عندما تتجاوز العناصر البنائية حدود الطوب والحجر

نهال جمال عمران
نهال جمال عمران

عندما تتجاوز العناصر البنائية حدود الطوب والحجر لتدخل في نسيج الروح والمعنى. كل منحنى وكل خط صاعد أو دائري هو انعكاس لعقيدة، وصدى لتجربة روحية، وتجسيد لعلاقة أبدية بين الإنسان وربه. في هذا السياق، لا يمكننا أن ننظر إلى المئذنة والقبة على أنهما مجرد عنصرين معماريين، بل هما أقرب إلى كائنين رمزيين، يجتمعان في كل مسجد، كجتماع الصوت بالصدى، والسماء بالأرض.

1. المئذنة: إصبع الأرض المرتفع نحو السماء منذ القرون الأولى للإسلام، ارتبطت المئذنة بالنداء الإلهي. كانت في بدايتها مجرد مكان مرتفع يُرفع منه الأذان، ثم تطورت لتصبح عمودًا من نور، ولسانًا من حجر، ومعلَمًا يعلن حضور الإسلام في الأفق. المئذنة ليست صامتة، بل تتكلم كل يوم خمس مرات، تذكّر الناس بالله، وتوقظ الغافلين، وتجمع القلوب حول كلمة التوحيد.

رمزيًا، تمثل المئذنة الصعود، فهي الخط العمودي الذي يصل بين الأرض والسماء. ترتفع فوق كل شيء لتشير إلى العلو، وإلى السمو، وإلى أن في هذا المكان نداء إلى ما هو أرفع من المادة. وحين تكون المئذنة وحيدة، كما هو الحال في كثير من المساجد القديمة، فإنها تشير لوحدانية الله، وانفراده بالكلمة، وعزلة الروح الساعية إلى الله. في المئذنة الوحيدة نجد انعكاسًا لروح الإسلام الأولى: البساطة، التوحيد، واليقين. وإذا تأملنا المآذن القديمة في مصر – من جامع عمرو بن العاص إلى جامع أحمد بن طولون – سنجد أن المئذنة لم تكن زينة، بل كانت رسالة، معلقة في الفضاء، تردد صدى التوحيد، وتوقظ الذاكرة الجماعية للأمة.

2. القبة: حضن السماء، ومرآة العرش، بينما تصعد المئذنة من الأرض، تنزل القبة من السماء. هي ليست مجرد غطاء معماري، بل هي رمز للرحمة الإلهية، وانحناءة سماوية فوق الأرض. القبة، بدائرتها

الكاملة، تجسّد المفهوم الإسلامي للكون: لا بداية ولا نهاية، انسجام وتناغم، حركة أبدية. من يقف تحت قبة المسجد يشعر وكأنه تحت قبة السماء نفسها. النقوش والزخارف التي

تزين داخلها، من آيات قرآنية إلى أشكال نجمية، تجعلها مرآةً للعرش، وامتدادًا روحيًا للملكوت الأعلى. القبة ليست فقط حامية للصلاة، بل هي فضاء يحتضن الدعاء، ويجمع الصدى، ويُشعر المصلّي بأنه في مركز العالم. القبة حاوية في رمزيتها، فهي تحضن، وتستوعب، وتحمي. هي الرحم الذي يولد فيه الإنسان من جديد في كل سجدة، وفيها تتجلى أسماء الله الحسنى، كما لو أن الله يحدّق من خلال دائرتها المفتوحة على المطلق.

3. الزواج الرمزي: المئذنة والقبة كعلاقة كونية حين يجتمع الخط العمودي للمئذنة مع الانحناءة الأفقية للقبة، يحدث تعانق معماري، المئذنة تصعد بنداء، والقبة تحتضنه وتعيد صداه. هذا اللقاء ليس بصريًا فقط، بل هو تمثيل للعلاقة الأزلية بين العبد وربه، بين الدعاء والرحمة، بين الصعود والنزول. في هذا الزواج الرمزي، نرى كيف تتحول عمارة المسجد إلى خريطة روحية: المئذنة تقول "الله أكبر"، والقبة تهمس: "سمعنا وأطعنا". المئذنة تُعلن، والقبة تتلقّى، وفي تداخلهما يُولد الإنسان من جديد، ليس بجسده، بل بروحه، كلما وقف للصلاة.

وليس من المصادفة أن نرى في المساجد الصوفية هذا الانسجام الكامل بين القبة والمئذنة، ففي التصوف تُفهم العمارة لا كفن زخرفي بل كرمز مسكون بالحضور الالهي

4. مصر: موطن العناق بين المئذنة والقبة، ليست مصر فقط أرض الأهرامات والمعابد القديمة، بل هي أيضًا أرض المساجد الكبرى التي تشهد على نضج العمارة الإسلامية. في قاهرة المعز، وفي الفسطاط، وفي أحياء الصوفية القديمة، نشهد عشرات المساجد التي تحتضن هذا العناق الرمزي بين القبة والمئذنة. من مسجد السلطان حسن، إلى جامع ابن طولون، إلى المساجد الصغيرة في الصعيد والريف، كلها تقدم مشاهد متكررة لهذا الزواج المقدس. وفي هذه المساجد، لا تُبنى القباب عشوائيًا، ولا تُرفع المآذن عبثًا. بل هناك هندسة روحية كامنة، تقول إن الصلاة لا تكتمل إلا حين يصعد الذكر من الأرض، وتنزل الرحمة من السماء، ويلتقيان في قلب المصلّي. فمصر – بتاريخها وثقافتها – لا تقدم لنا مسجدًا كحجر، بل كقصيدة، كأغنية عميقة من نور وصوت.

5. بين الحجر والروح، يولد المعنى ليست المئذنة مجرد عمود، ولا القبة مجرد قوس. في لقاءهما ، يُولد المعنى، وتُصاغ الصلاة في شكل معمار. وحين نقف في ساحة مسجد، وننظر إلى المئذنة تعانق القبة، نحن لا نرى بناءً فقط، بل نشهد لحظة ميلاد… ميلادٍ روحي، يتكرر خمس مرات في اليوم، لكنه لا يشيخ أبدًا.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً