جلستُ في مقهى «سولافة» كعادتي، في ذلك الركن الصغير الذي تديره سيدة سودانية بملامح وادعة وصوت خفيض، يشبه نبرة النيل حين ينساب هادئًا، قبل أن تعصف به الرياح وتكدر صفوه. كان المكان متواضعًا في شكله، لكنه دافئ في روحه؛ جدرانه لا تحمل زينة، بل تحمل حكايات، ورائحته ليست مجرد قهوة، بل مزيج من الغربة والانتظار.
في هذا المقهى، تختلط الأصوات بالذكريات، وتجلس الضحكات القديمة على المقاعد الخشبية كأنها ضيوف أنهكهم التكرار ولم يجدوا مكانًا آخر يذهبون إليه. هنا، لا يأتي الناس فقط ليشربوا القهوة، بل ليضعوا أثقالهم على الطاولات، ويستريحوا قليلًا من صخب العالم، قبل أن يعود كلٌ منهم إلى غربته، حاملاً معه ما تبقّى من دفء هذا الركن الصغير.
دخل صديقي محمد الحكيم، ودخوله كان امتدادًا لطبعه؛ هادئًا بلا ضجيج، خاليًا من الاستعراض أو التحية الصاخبة. جلس في مقعده المعتاد، بثقة من يعرف المكان ويعرفه المكان، كأن بينهما ألفة قديمة لا تحتاج إلى كلام.
طلبتُ قهوةً لنفسي، وشايًا له. رفعت سولافة رأسها نحونا، ورسمت على وجهها ابتسامة ناقصة، ابتسامة تؤدي واجبها ولا تفيض عن حدّها، ثم انصرفت إلى إعداد الطلب، كأن في عينيها شيئًا مؤجَّلًا، ينتظر لحظة أخرى ليُقال. حين عادت، لاحظت شيئًا لم أعهده من قبل. كانت عيناها محتقنتين بالدموع، وكأن الحزن قد جلس هناك منذ وقت طويل، دون أن يجد من يخرجه. لأول مرة، وضعت الأكواب أمامنا دون أن تليها ابتسامتها المعتادة، ودون أن تضيف «فيشار» مجاني، ذلك التفصيل البسيط الذي كان دومًا يكمل دفء المكان ويمنحه طعمه الخاص.سألتها: – ما بكِ يا سولافة؟
نظرت إليّ كأن سؤالي قد فتح بابًا كانت تحاول جاهدة أن تغلقه، ثم تحدثت بصوت متكسّر، يختلط فيه الحزن بالغضب:
– في ناس من قرايبي ماتوا… الحرب أكلتهم.
ساد صمت ثقيل، يملأ المكان أكثر من رائحة القهوة. وفجأة، أطلقت سؤالًا خرج من قلبها قبل عقلها:
– هو ليه مصر سايبانا لوحدنا كده؟
لم تنتظر إجابة، انصرفت بهدوء، تاركة السؤال معلقًا في الهواء، أثقل من دخان القهوة، كأن الحروف نفسها لم تستطع حمل ثقل ما تقول.
قلت لمحمد الحكيم، وأنا أتابع خيوط الدخان تتصاعد من فنجاني:
– في رقبة مصر جميل قديم للسودان.
نظر إليّ بنظرة متحفزة، كمن يترقب مفاجأة أو يتهيأ للاعتراض، فتابعت:
– السودان استضاف الكلية الحربية المصرية بعد نكسة سبعة وستين، وفتح أرضه لتدريب الضباط المصريين، بل وأكثر من ذلك، فقد ساعدت قوات النخبة السودانية المجهود الحربي المصري في أكتوبر. هذا تاريخ… والتاريخ لا يُنسى.
اعترض محمد الحكيم بهدوئه المعتاد، كمن يوازن بين العقل والقلب:
– لكن هذا لا يعني أن مصر يجب أن تتورط في حرب السودان.
ابتسمتُ.
– ابتسمت له بهدوء، وأوضحت:
– أنا لم أقل إن مصر يجب أن تتورط. ما أقوله فقط هو ألا تترك السودان وحيدًا. هناك فرق كبير بين الأمرين. السودان ليس مجرد دولة جارٍ لنا… بل هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري.
قلت له وأنا أراقب الدخان يتصاعد من فنجاني:
– الحرب السودانية تشكل ضغطًا سياسيًا مضاعفًا على الدولة المصرية، ليس فقط لأن السودان حيوي لأمن وادي النيل، بل أيضًا لأن الرأي العام المصري متألم من مشاهد الانهيار ومن تقدم المليشيات، ويخشى أن تنتقل تداعيات الحرب—أمنيًا وديموغرافيًا—إلى الداخل المصري.
الأزمة في السودان ليست مجرد صراع داخلي. إنها ساحة مفتوحة لتنافس إقليمي حاد، تتشابك فيها مصالح عربية وإفريقية، ثم تتدخل القوى الكبرى، التي ترى في السودان موقعًا استراتيجيًا على البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
وهذا الوضع يفرض على مصر درجة عالية من الحذر. إذا انحازت لطرف معين، فإنها تخسر قدرتها على الوساطة، وإذا وقفت بعيدًا تمامًا، فإنها تترك فراغًا قد يهدد مصالحها وحدودها الحيوية.
قلت له إن القاهرة تمشي على خيط رفيع: فهي تدعم وحدة الدولة السودانية ومؤسساتها العسكرية والأمنية، مع الحفاظ على قنوات التواصل مع القوى المدنية، والانفتاح على أي تسوية سياسية قابلة للحياة.
ولكن التأثير المصري يبقى محدودًا، نظرًا لتشظي القوى داخل السودان وتزايد النفوذ الخارجي. ومع ذلك، تظل مصر صاحبة المصلحة الأكبر في منع تفكك السودان، أو في منع قيام ترتيبات أمنية جديدة في الإقليم قد تقلص دورها أو تستبعده تمامًا.
وعلى الحدود، الواقع أكثر حساسية وتعقيدًا. هناك تدفقات بشرية كبيرة، وجراح مفتوحة لا تلتئم بسهولة، وحاجة ملحة لتوازن دقيق بين الحماية والرحمة. أي تشدد مفرط يدفع الناس إلى طرق التهريب، في حين أن انفتاحًا مبالغًا فيه يفتح الباب أمام مرور السلاح وتفاقم الفوضى. السياسة هنا ليست شعارات تُقال على المنابر، بل هي أعصاب باردة وقلب صاحٍ، يتخذ القرارات في صمت، ويوازن بين المخاطر بعناية بالغة.
عادت سولافة من بعيد، بخطوات بطيئة كأنها تحمل ثقل المسافة بين بلدين في قلبها. رفعت طرف طرحتها، ومسحت دموعًا حاولت أن تُخفيها، لا خجلًا منها، بل خوفًا من أن تفضح ما لم تعد الكلمات قادرة على قوله. ثم وقفت خلف المنضدة في صمت، تستعيد ملامحها المعتادة، تلك الملامح التي تعلّمت أن تبتسم للغرباء، حتى وهي تنزف من الداخل.
نظرتُ إليها طويلًا، وفهمت دون أن أحتاج إلى سؤال. لم تكن سولافة مجرد سيدة سودانية تدير مقهى صغيرًا في مدينة مزدحمة، ولم تكن حكايتها حكاية غربة عابرة أو رزق بعيد. كانت بنت النيل ذاته؛ النهر الذي لا يعرف الحدود، ولا يعترف بالفواصل المصطنعة بين العواصم. دموعها تسقط هنا، في القاهرة، حيث الأمان المؤقت والهدوء الخادع، لكن وجعها الحقيقي ظل هناك، في الخرطوم، حيث البيوت المحترقة، والقلوب المعلقة على أمل لا يأتي.
في تلك اللحظة، أدركت أن المقهى لم يعد مقهى، وأن القهوة لم تعد قهوة، وأن المرأة الواقفة خلف المنضدة لم تعد مجرد صاحبة مكان. كانت وطنًا صغيرًا منكسرًا، حملته الحرب على كتفيها، وجاءت به إلى هنا، علّه يجد بعض الطمأنينة. لكن الأوطان، حين تُصاب، لا تشفى بتغيير المكان، بل تظل تنزف، حتى وإن ابتسمت.
شربتُ قهوتي على مهل، كأنني أختبر مرارتها جرعةً جرعة. كان طعمها أشد قسوة من المعتاد، لا لخللٍ في القهوة ذاتها، بل لأن شيئًا أثقل كان قد امتزج بها. أدركتُ أن المرارة لم تأتِ من البن، بل من القلب، من ذلك الإحساس الغامض بالعجز الذي يتسلل إلى الإنسان حين يعجز عن تقديم إجابة، أو حتى عزاء.
رفعتُ الفنجان مرة أخرى، لكن السؤال كان قد سبقني، واستقر في رأسي بإلحاح لا يهدأ. سؤال تركته سولافة معلّقًا في الهواء، ثم مضت، كأنها تعلم أن بعض الأسئلة لا تُطرح لتُجاب، بل لتُدين الصمت. لماذا نترك بعضنا وحيدين؟ كيف نصبح غرباء، ونحن أبناء نهر واحد، ووجع واحد، وتاريخ لم يكن يومًا مقسومًا بالخرائط؟
في تلك اللحظة، شعرت أن القهوة انتهت، لكن السؤال لم ينتهِ. ظل يرافقني، أثقل من الفنجان الفارغ، وأصدق من أي حديث سياسي، لأنه خرج من قلب امرأة مكسورة، لا تبحث عن خطاب، بل عن يدٍ تمتد، وعن شعور بسيط بأن أحدًا لم يتركها وحدها.