ads
ads

محمد مختار يطرح السؤال الصعب : هل كان نجيب محفوظ عقبة في سبيل تطور الرواية العربية؟ .. قراءة نقدية في إشكالية الظل والامتداد

محمد مختار
محمد مختار

ليست الأسئلة الكبرى في تاريخ الأدب أسئلة ساذجة أو عابرة، بل هي في جوهرها أسئلة قلق عميق، تنبع من لحظات التحول الحاسمة التي يمر بها الإبداع الإنساني. فهي لا تُطرح بدافع الشك في القيمة، وإنما بدافع الخوف على المصير، وعلى ما يمكن أن يصير إليه الفن بعد أن يبلغ ذروة من ذراه. ومن هذا المنطلق يبرز السؤال المتعلق بنجيب محفوظ: هل كان قوة دافعة أسهمت في ترسيخ فن الرواية العربية ودفعه إلى الأمام، أم تحول ــ من حيث لا يقصد ــ إلى عائق يثقل خطواتها اللاحقة؟

هذا السؤال لا ينفصل عن طبيعة الظاهرة الإبداعية الكبرى حين تكتمل وتستقر في وعي القراء والنقاد معًا. فكل تجربة فنية تصل إلى درجة عالية من النضج والاكتمال تثير حولها قدرًا من القلق الخلاق، ذلك القلق الذي لا يستهدف الهدم بقدر ما يسعى إلى اختبار القدرة على الاستمرار والتجدد. وهنا يصبح القلق علامة صحة لا مرضًا، لأنه يكشف عن رغبة في تجاوز المألوف وعدم الاكتفاء بما تحقق.

إن الأدب، حين يتهيأ له أن يتجسد في تجربة فردية بالغة القوة والاتساع، يواجه مفارقة دقيقة. فمن ناحية يمنح هذا الاكتمال الفن شرعيته وملامحه الواضحة، لكنه من ناحية أخرى قد يهدد ــ على نحو غير مباشر ــ بحرمان الأصوات الجديدة من حق المغامرة والاختلاف. فحين يبدو الطريق ممهدًا ومكتمل المعالم، يغدو الخروج عليه مغامرة شاقة، ويصبح الابتكار عبئًا نفسيًا قبل أن يكون تحديًا فنيًا. وهكذا لا تكمن الإشكالية في حضور الكاتب الكبير ذاته، بل في أثر هذا الحضور حين يتحول من تجربة ملهمة إلى نموذج نهائي يصعب تجاوزه.

نجيب محفوظ ليس مجرد روائي كبير يُضاف اسمه إلى سجل المبدعين، بل هو تجربة شاملة أقرب إلى نظام روائي متكامل، له منطقه الداخلي وقوانينه الخاصة. فهو يقدم رؤية متماسكة للعالم، ويؤسس بناءً فنيًا دقيقًا، ويصوغ لغة ذات نبرة مميزة، ويخلق شخصيات تعيش خارج حدود النص، فضلًا عن مسار إبداعي طويل يمتد من الواقعية الاجتماعية الصارمة إلى آفاق الرمزية والتأمل الفلسفي. بهذا الاتساع والتنوع، لم يعد مشروعه مجرد مجموعة روايات، بل أصبح بنية متكاملة يمكن تتبع تطورها وتحولاتها بوصفها تاريخًا للرواية العربية الحديثة في حد ذاتها.

وحين يترسخ هذا النظام في وعي الأجيال اللاحقة من القراء والكتاب، تتغير طبيعته من إنجاز فردي إلى معيار عام يُقاس عليه. عندئذ لا يُقرأ محفوظ بوصفه تجربة قابلة للأخذ والرد، بل يتحول إلى مرجع ضمني، وإلى قانون غير مكتوب يحدد ما يُعد رواية “جيدة” وما يُستبعد من هذا التعريف. وهنا تبدأ الإشكالية الحقيقية، إذ يغدو الإبداع الجديد محاصرًا بسقف مسبق، وتتحول التجربة الحية إلى نموذج ثابت، فيتراجع السؤال والبحث لصالح المقارنة والمحاكاة، ويصبح الخروج على هذا النموذج فعلًا محفوفًا بالريبة لا بالفضول.

قبل ظهور نجيب محفوظ، كان الأدب العربي يشهد محاولات روائية لافتة، لكنها غالبًا ما كانت في طور التكوين والتجريب، تفتقد إلى الوحدة المنهجية والتطور البنيوي الذي يجعلها نموذجا مستقرا يمكن البناء عليه. فقد كانت هذه الأعمال تمثل خطوات أولية، محاولات فردية تستكشف إمكانيات الرواية، لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة تكامل الرؤية الفنية والشمولية الموضوعية التي تمكنها من ترك أثر طويل المدى في الوعي الأدبي.

وجاء محفوظ ليحقق ما لم تحققه هذه المحاولات السابقة، فأسس للرواية العربية أساسًا متينًا يجعلها فنًا مكتملًا، يمنحها الشرعية والرسوخ، ويجعل من كل نص منه تجربة متسقة يمكن الرجوع إليها كنموذج مرجعي. لقد وفّر مشروعه الروائي مسارًا واضحًا للكتابة، سواء على مستوى البناء الفني أو تطور الشخصيات أو اتساع الرؤية الإنسانية والاجتماعية.

لكن هذا الرسوخ الفني، رغم كل إيجابياته، يحمل في طياته مفارقة دقيقة: فهو من ناحية يمنح القارئ شعورًا بالثقة والأمان، ويؤكد على جدوى الرواية العربية وقدرتها على التعبير عن الواقع والحياة، لكنه من ناحية أخرى قد يشكل رادعًا نفسيًا للكتاب الشباب، إذ يشعرون بثقل الظل الكبير الذي خلفه محفوظ، فيترددون عن المغامرة أو التجريب، خشية أن لا يستطيعوا مجارات هذا النموذج أو تجاوزه، فيصبح الابتكار عبئًا ثقيلًا قبل أن يكون فعلًا إبداعيًا.

من هذا المنظور، يمكن تفسير القلق الذي عبر عنه بعض النقاد بشأن ما اعتبروه «هيمنة» نجيب محفوظ على المشهد الروائي، ليس باعتباره نقدًا لقيمته أو محاولة للتقليل من مكانته، بل بوصفه خشية من تأثير هذه الهيمنة على مستقبل الرواية نفسها. فحين يصبح كاتب واحد نموذجًا كاملًا ومرجعًا أعلى، تتراجع الجرأة على التجريب، ويصبح الطريق الآمن هو التقليد بدل الابتكار والمخاطرة الفنية.

ولا ينبغي فهم هذه الظاهرة على أنها فرض أو ضغط مباشر من جانب محفوظ، بل هي نتيجة طبيعية لعظمته الفنية التي خلقت هيبة نفسية وجمالية أمام الأجيال الجديدة. وهكذا لا تتحول العقبة إلى شخص، بل إلى «ظل طويل» يمتد خلفه، ظل يفرض قيودًا غير مرئية على التجربة الأدبية، ويجعل من الصعب على الروائي الشاب أن يجد لنفسه مسارًا مستقلاً بعيدًا عن التأثر القوي بالمعلم الكبير.

غير أن تأمل مسيرة الفنون عبر التاريخ يسلط الضوء على حقيقة جوهرية: العصور التي شهدت بروز عمالقة لم تتوقف عندهم إلا عندما غاب النقد الواعي الذي يملك القدرة على اكتشاف مسارات جديدة وفتح آفاق الإبداع أمام المبدعين الصغار. فالكاتب الكبير لا يضع حدًا للفن بوجوده، بل يضعه أمام اختبار قاسٍ يتطلب شجاعة واستقلالية؛ إذ يجد الروائي الشاب نفسه أمام خيارين: إما الاستسلام للمحاكاة والتقليد، فيتحول صوته إلى صدى باهت لعملاق الفن، أو المخاطرة بالسير في طريق الإبداع، ليبني صوتًا مستقلًا وتجربة فنية تضيف بعدًا جديدًا للمشهد الأدبي.

وهنا يتجلى الدور الحيوي للنقد الفاعل، الذي يستطيع التفريق بين التقليد والانطلاق الحقيقي، ويحفز المبدعين على تجاوز الظل الطويل للعملاق، بدل أن يقفوا عاجزين أمامه، مترددين بين الإعجاب والخوف من المغامرة الفنية. فالنقد الواعي هو ما يضمن استمرار دورة التجديد في الأدب، ويحول حضور الكاتب الكبير إلى فرصة للتعلم والانطلاق، لا إلى حاجز يعيق التجربة الجديدة.

غير أن تأمل مسيرة الفنون عبر التاريخ يسلط الضوء على حقيقة جوهرية: العصور التي شهدت بروز عمالقة لم تتوقف عندهم إلا عندما غاب النقد الواعي الذي يملك القدرة على اكتشاف مسارات جديدة وفتح آفاق الإبداع أمام المبدعين الصغار. فالكاتب الكبير لا يضع حدًا للفن بوجوده، بل يضعه أمام اختبار قاسٍ يتطلب شجاعة واستقلالية؛ إذ يجد الروائي الشاب نفسه أمام خيارين: إما الاستسلام للمحاكاة والتقليد، فيتحول صوته إلى صدى باهت لعملاق الفن، أو المخاطرة بالسير في طريق الإبداع، ليبني صوتًا مستقلًا وتجربة فنية تضيف بعدًا جديدًا للمشهد الأدبي.

وهنا يتجلى الدور الحيوي للنقد الفاعل، الذي يستطيع التفريق بين التقليد والانطلاق الحقيقي، ويحفز المبدعين على تجاوز الظل الطويل للعملاق، بدل أن يقفوا عاجزين أمامه، مترددين بين الإعجاب والخوف من المغامرة الفنية. فالنقد الواعي هو ما يضمن استمرار دورة التجديد في الأدب، ويحول حضور الكاتب الكبير إلى فرصة للتعلم والانطلاق، لا إلى حاجز يعيق التجربة الجديدة.

إن النظر في مسيرة الفنون عبر التاريخ يكشف لنا درسًا جوهريًا: العصور التي شهدت ظهور عمالقة لم تتوقف عندهم إلا عندما غاب النقد الواعي القادر على اكتشاف مسارات جديدة وفتح آفاق الإبداع أمام المبدعين الصغار. فالكاتب الكبير لا يقضي على الفن بوجوده، بل يضعه أمام اختبار صعب يتطلب شجاعة واستقلالية فكرية؛ إذ يجد الروائي الشاب نفسه أمام خيارين: إما أن يستسلم للمحاكاة والتقليد فيصبح صوته مجرد صدى باهت لعملاق الفن، أو أن يخوض مخاطرة الابتكار ليبني صوتًا مستقلاً وتجربة فنية تضيف بعدًا جديدًا إلى المشهد الأدبي.

وفي هذا السياق يتضح الدور الحيوي للنقد الواعي، الذي يميز بين التقليد والانطلاق الحقيقي، ويحفز المبدعين على تجاوز الظل الطويل للعملاق، بدلاً من أن يقفوا عاجزين أمامه، مترددين بين الإعجاب والخوف من المغامرة الفنية. فالنقد الفاعل هو ما يضمن استمرار دورة التجديد في الأدب، ويحوّل حضور الكاتب الكبير من عائق محتمل إلى فرصة للتعلم والانطلاق، مع الحفاظ على حرية التجربة وحق كل جيل في رسم طريقه الخاص داخل الإبداع الأدبي.

ومن هذا المنطلق، تبدو مقولة أن نجيب محفوظ «قضى على الرواية العربية» مقولة متسرعة، تختزل أزمة معقدة متعددة الأبعاد في سبب واحد. فالرواية لا تموت بوجود كاتب كبير، بل تضعف حين يعجز المبدعون الآخرون عن اكتشاف أصواتهم وذواتهم الفنية، وحين يتحول النقد من أداة كشف وتحليل إلى سلطة تصنيف تحكم على الإبداع قبل أن تمنحه فرصة التجربة.

إن نجيب محفوظ، في جوهر مشروعه، كان كاتب تحول مستمر، لا كاتب تثبيت جامد؛ فتنقلاته الفنية بين المراحل المختلفة، وتجاربه المتنوعة، تشهد على حرصه على التوسع والاستكشاف بدل الإغلاق على نموذج واحد. وكأنه يوجه رسالة ضمنية للأجيال الجديدة: الطريق أمامكم مفتوح، لا تتبعوني خطوة بخطوة، بل تجاوزوني، وابنوا مساركم الخاص في عالم الرواية، فالإبداع لا يكتمل إلا بالحرية في التجريب والمغامرة.

والأزمة الحقيقية ــ إذا صح الحديث عن أزمة ــ لا تكمن في نجيب محفوظ نفسه، بل في طبيعة القراءة التي وُجهت لأعماله. فالقراءة التي تكتفي بمستوى السطح والأسلوب الخارجي، وتتجاهل البنية العميقة للنص والرؤية الفلسفية والاجتماعية التي يحملها، تتحول إلى محاكاة ميكانيكية لا أكثر. فهي تستنسخ الأسماء والمواقف والحارات دون فهم الدلالات الأعمق، وتغفل السؤال الوجودي الذي يشكل جوهر الرواية، وتقلد الحوار على نحو نمطي، مع فقدان البعد الإبداعي للرؤية. في هذه الحالة، يصبح التأثر أثرًا ثقيلاً، وتتحول عظمة الكاتب الكبير إلى شماعة يعلق عليها المبدعون الصغار عجزهم عن الابتكار والمغامرة، بدلاً من أن تكون مصدر إلهام يدفعهم إلى التجريب وبناء أصواتهم الخاصة.إن نجيب محفوظ لم يكن عقبة أمام تطور الرواية العربية، بل شكل اختبارًا صارمًا لمستوى الإبداع والقدرة على الابتكار. فمن تمكن من اجتياز هذا الاختبار، استطاع أن يفتح لنفسه آفاقًا جديدة ويطور تجربة روائية مستقلة، بينما من لم ينجح بقي محاصرًا ضمن نموذج واحد، عاجزًا عن اكتشاف صوته الخاص. فالرواية العربية لم تطالب يومًا بأن تُلغي أباها أو تتجاهل إرثه، بل دُعيت لتكبر وتتوسع بعده، مستفيدة من الأساس الذي وضعه. ومحفوظ، بعظمته وليس بالرغم منها، يظل علامة بداية، ومنطلقًا نحو التجديد، لا علامة نهاية تحد من حركة الإبداع والخيال الأدبي.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً