هو بشر مثلنا أخطأ وأصاب ، لكنه لم يخُن، ولم يتآمر على وطنه، حَقَن دماءَ شعبَه، رفض رَغَد العيش هارباً، وقال ربي.. السجن أحب إلّيّ من فتنة لا تُبقي ولا تَذَر، فمكث فيه بضع سنين، ودفع ثمناً غالياً من نفسه وعرضه وولده، ذلك الوريث الوحيد الذي لم يرِث عرش أبيه، بين ملايين الموّرثِين والوارثين، وإن شئت على ذلك دليلاً، فلا أصدق من صفحات نعي الموتى!
لا أوجع من أبيات نزار قباني الباقية، التي تنبض تعبيراً عن الشعور بالقسوة حين قال: " يا مَن يعاتبُ مذبوحـاً على دمـهِ..ونزفِ شريانهِ، ما أسهـلَ العُـتبا،.. من جرّبَ الكيَّ لا ينسـى مواجعهُ ..ومن رأى السُمَّ لا يشقى كمن شربا،..حبلُ الفجيعةِ ملتفٌّ عـلى عنقي ..من ذا يعاتبُ مشنوقاً إذا اضطربا؟ "
عشرة أعوام من الصمود، من الجحود والإنكار والجمود، عاشت بداخله وإن تناسيناه، سلّم أمانته وخوَّناه، امتثل لمحاكمته ورفضناها، سكن عُزلتَه وما رحمناه، طوَيْنا صفحته، ما تركناه يمضي إلى مثواه بل شنقناه، واليوم قد أفاض إلى بارئه فأعتقناه!
سَلْ عنه أقطار الوطن العربي ملوكهم وشعوبهم، ستجيبك تلك العبارة الإنجيلية الشهيرة -والحديث عن القدر لا النبوة - بأنه "لا كرامة لنبي في قومه"، نعم وقد عاش الرئيس الراحل محمد حسني مبارك زعيماً ورئيساّ وبطلاً في الحرب والسلام، ثم مات وحيداً شريداً.
سبقه إلى الربيع العربي -وإن شئت، فلتقل عنه خريفا- الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن على، الذي طار لاجئاً إلى المملكة العربية السعودية، ولحقه العقيد معمر القذافي، الذي حكمَ ليبيا لأزيدَ من 40 سنة حين عُثِرَ عليه مختبئًا في بربخ "ماسورة مياه" غرب مدينة سرت الليبية، وفى اليمن، قُتِل على عبدالله صالح في حرب أهلية، وفي سوريا فني الشعب ليبقى بشار، حتى في مصر مات محمد مرسي خليفته في الحكم خلف القضبان، وفي غرة شهر رجب كان له من الله حسن الختام .
قالها بثبات، فَحَكَمَ التاريخ له : "إن حسني مبارك الذي يتحدث إليكم اليوم، يعتز بما قضاه من سنين طويلة في خدمة مصر وشعبها، إن هذا الوطن العزيز هو وطني، مثلما هو وطن كل مصري ومصرية، فيه عشت وحاربت من أجله ودافعت عن أرضه وسيادته ومصالحه وعلى أرضه أموت. وسيحكم التاريخ عليّ وعلى غيري بما لنا أو علينا، إن الوطن باق والأشخاص زائلون، وعند الله تجتمع الخصوم."
كنا نظنه يدغدغ مشاعرنا، فكذبناه وأوفى حين قال "ستظل مصر هي الباقية فوق الأشخاص وفوق الجميع..ستبقى حتى أسلم أمانتها ورايتها، هي الهدف والغاية ، والمسئولية والواجب، بداية العمر ومشواره ومنتهاه، وأرض المحيا والممات وستظل بلداً عزيزاً، لايفارقني أو أفارقه حتى يواريني ترابه وثراه" صدق واليوم قد واراه ترابها .
ضرب لنا مثلاً في التصالح مع النفس حين ختم حديثه للقاضي من داخل قفص الاتهام، فى محاكمة القرن " لعل حديثي أمامكم اليوم، هو آخر ما أتحدث به حتى ينتهى العمر، وإننى وإذ اقترب العمر من نهايته مرتاح الضمير، لأن قضيتي هي الدفاع عن مصر ومصالحها وأبنائها حرباً وسلاماً، وإنني بخبرة السنين أقول لكل مصري ومصرية حافظوا على وحدة الوطن، وانتبهوا لما يحدق بالوطن من أخطار، وما يحاك له من مخططات ومؤامرات، ومصر أمانة أحملوا رايتها واحفظوها وامضوا بها إلى الأمام، حمى الله مصر ورعاها، وحمى شعبها"
فلم نلتفت إليه أو نره !!
ومن ذا الذي يزعم بأنه قد أقصى مبارك عن الحكم أو نحَّاه؟ هل تجرَّأ على الله؟ وهو القائل فى أحكم التنزيل" قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" أقرأت " وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ" ولم تقرأ "بِيَدِكَ الْخَيْرُ"؟
واليوم يعود العرفان بعد الممات، نعيُ من رئاسة الجمهورية، والقوات المسلحة المصرية ،ومجلس الوزراء،حداد عام، نكست فيه الأعلام ، وجنازة عسكرية مهيبة، تعازٍ من رؤساء وملوك العالم ..هل يعوضه ما عاناه ؟!
انتقل مبارك إلى جوار ربه راضياً بما قدمه، لعل في ذلك خير له فى أُخراه، ولا نملك إلا أن نسأل الله له عفواً وغفراناً.