اعلان

جيش مصر البرتقالي .. عمال النظافة على خط المواجهة مع الوباء (ملف خاص)

محرر أهل مصر مع عمال النظافة
محرر أهل مصر مع عمال النظافة

<< أهالي حي الزبالين: نار كورونا ولا جحيم الجوع

<< لقمة العيش مغمسة بالفيروس ..والوباء يحاصر السكان

رجل كبير السن، ذو وجه عابس وملامح حزينة تحمل وجع وشقاء سنوات، يرتدي بدلة لونها برتقالي، وقبعة بيضاء فوق رأسه، أملًا منه أن تقيه من آشعة الشمس، وحذاء بسيط في قدميه، يحمل في يده اليسرى أكياس يضع فيها القمامة، وينحني في خجل حتى يلتقط بيده اليمنى القمامة الملقاة على الأرض ليضعها في الأكياس، يتجول في ميدان عبدالمنعم رياض بوسط القاهرة ليجمع القمامة، يمارس عمله في هدوء وبإتقان، غير مكترث بالمارة فكل شغله الشاغل تنظيف الشارع من القمامة، يؤدي عمله بضمير، كمحارب يحمل سلاحه قي معركة لتحرير وطنه .. هذا عم محمد، أحد أفراد الجيش البرتقالي الذي يحارب في معركة كورونا.

المئات من عمال النظافة المعروفين بزيهم البرتقالي، تجدهم منتشرين داخل الشوارع وفي الطرقات وعلى الأرصفة، يمارسون عملهم بجد غير مكترثين بالوباء، فالمهمة الموكل لهم رغم صعوباتها إلا إنها في غاية الأهمية، فلقب الجيش البرتقالي، لم يطلق عليهم من فراغ، فهم حقًا جنود يواجهون فيروس كورونا.

عم محمد سعيد، الرجل الذي يبلغ من العمر 60 عامًا، أتى من قرية بعيدة بالمنوفية، ليعمل كعامل نظافة في البلدية، لينفق على زوجته وأولاده، بعد أن ضاق به الحال في ظل أزمة كورونا، وظروف المعيشة الصعبة، فلم يجد عملًا آخر إضافيًا ليزيد من دخله ويحسنمعيشة عائلته، يعمل هذا الرجل المكافح من الساعة الـثالثة عصرًا وحتى الحادية عشر مساءً، تجده منهمكًا في عمله، لا يشغل باله بما يدور حوله، لا يرتدي قفازًا في يده أو كمامة في وجهه، مستندًا على ثقافة شعبية خاطئة رسخت هذه المفاهيم.

قال عم محمد، إنه يأتي كل يوم من قريته بالمنوفية، متجهًا للقاهرة مستقلًا القطار المميز حتى يوفر في نفقات انتقاله فعائلته تحتاج إلى كل جنيه، موضحًا أن هذه مهنته التي لا يعرف غيرها، فمنذ سنوات طويلة وهو عامل نظافة، وهي مصدر دخله الوحيد الذي ينفق منه على أسرته أولاده الذين يدرسون بمراحل تعليمية مختلفة.

'باخد 1800 جنيه في الشهر، يعني يوميتي 60 جنيه'، كلمات لفظها الحاج محمد بضيق وحزن، مؤكدًا إنه يعمل 8 ساعات يوميًا مقابل 60 جنيهًا فقط، فلا يكفون متطلبات الحياة الأساسية له ولأسرته من مأكل ومشرب وملبس، وليس لديه عمل آخر غير النظافة، لافتًا أنه راضً بحاله وبرزقه، كما أنه دائم الحمد.

وأما عن ظروف العمل الصعبة في ظل جائحة كورونا وتعرضه للإصابة، أشار عم محمد، إلى إن 'آكل العيش' لا ينتظر أحدًا ولا يرحم، فإذا جلس في منزله خوفًا من الوباء لن يجد نقودًا لإطعام أسرته، والإنفاق على تعليم أولاده بجانب مصروفات أخرى كثيرة، مؤكدًا أنه مضطر للعمل، من أجل أبناءه فهو يتحمل الكثير في سبيل تعليمهم، فكل حلمه أن يراهم متفوقين في دراستهم وناجحين في حياتهم، فهذا على حد تعبيره 'يساوي الدنيا ومافيها'.

وبالنسبة للإجراءات الاحترازية للوقاية من فيروس كورونا، قال عم محمد إنه يخشى على نفسه كباقي البشر ويخشى أكثر على زوجته وأولاده، لكن طبيعة عمله تحتم عليه التعامل مباشرة مع القمامة والمخلفات التي تنقل العدوى، موضحًا أنه حتى وأن ارتدى قفازًا وكمامة ليحموه من الإصابة بفيروس كورونا لن تمنعه هذا الأشياء من الإصابة، مستطردًا أن عمله رسالة وأنه يؤمن بدوره هو وزملائه في المجتمع، وأن مهنتهم هامة للغاية فهم عندما يجمعون القمامة من الشوارع ومسببات العدوى يحموا كثيرين من العدوى، فدورهم لا يقل عن الأطباء والطواقم الطبية، فكل منهم له دور في التصدي لوباء كورونا.

مهدي حسن، من أبناء الصعيد، أتى من المنيا، للعمل بالنظافة، ليتقاضى أجرًا حتى وإن كان بسيط يساعده في رعاية أسرته وإطعامها، فزوجته وأولاده الثلاثة ينتظرون في منزلهم كل يوم حتى يأتي بنقود لشراء الطعام، قال مهدي الذي يبلغ من العمر 40 عامًا، إنه كان يعمل بمهنة المعمار لسنوات طويلة وكانت مصدر دخله الوحيد، تركها بعد توقف البناء، وظروف سوق العمل الصعبة بعد انتشار فيروس كورونا، فتأثر سلبًا كباقي زملائه، فاتجه للعمل بالنظافة لينفق على أسرته.

1800 جنيه شهريًا هما راتب مهدي مقابل عمله في النظافة، فيظل يتجول في شوارع وسط البلد من الساعة 7 صباحًا وحتى الـ 3 عصرًا يجمع القمامة، حاملًا في يده مكنسة خشبية وفي يده الأخرى صندوق قمامة كبير ليلقي فيه مايجمعه طوال اليوم، ثم يفرغه، بعد انتهاء عمله.

مهدي عندما تتحدث معه تجد شخصًا طيب القلب عفيف اللسان، كل حديثه عن الرضا والقناعة رغم ظروف عمله الصعبة، وأكد أنه غير مكترث بالإصابة بكورونا، فالله هو الحافظ، كما إنه ليس بيديه شيء ليفعله، للوقاية من الوباء، فهو يضطر، للعمل بيده في الشوارع والأرصفة والطرقات، ويجمع القمامة، التي لا يعلم منّ ألقاها فربما يكون مصابًا بالعدوى لكن على حد وصفه 'آكل العيش مُر'، فهو يتحمل الكثير من أجل أطعام أسرته وتربية أولاده.

'احنا شغلنا مهم، وبنتعرض للمرض علطول'، هكذا أكد مهدي صعوبة عملهم، خاصة في ظل انتشار فيروس كورونا، الذي لا يعتبر الخطر الوحيد الذي يواجههم، وإن كان أخطرهم، لكنهم معرضين للعدوى والإصابة بأمراض أخرى بسبب ملامستهم للقمامة والملوثات، لافتًا إلى أنهم يعلمون ذلك جيدًا لكن هذه هي مهنتهم وتلك هي ظروفها.

عوض شعبان، شاب ثلاثيني، عامل نظافة، بالقاهرة، يتبع لعمال البلدية، يظل في الشارع لساعات طويلة في البرد القارص، يمارس عمله الذي لا يعرف غيره، في جمع القمامة وتنظيف الشوارع، لا يهتم عوض بالإجراءات الاحترازية كمعظم زملائه الذين شاهدناهم، فيبدو أن الإصابة بكورونا بالنسبة لهم أسهل بكثير من الجوع، معادلة صعبة حقًا، لكن إذا تعلق الأمر بـ'أكل العيش' فلا تحدثني عن كورونا.

الرضا والابتسامة كانوا حاضرين عند جميع محاربي الجيش البرتقالي، رغم صعوبة الظروف، بوجهه البشوش حدثنا عوض عن طبيعة عمله، الذي يجعله يتجول لساعات بالشوارع في ظل السقيع، لجمع القمامة، وتنظيف الطرقات وكنس الأرصقة والميادين، موضحًا أنه يتحمل الكثير من أجل 'لقمة العيش'، وفي سبيل كسب رزقه، لافتًا إلى أنه يكذب إن قال إنه لا يخشى على نفسه من الإصابة بفيروس كورونا، لكنه مضطر للعمل لكسب النقود لينفق على مأكله ومشربه في ظل ظروف معيشية صعبة.

وعن طرق الوقاية من وباء كورونا، أشار 'عوض'إلى أنه يحاول قدر المستطاع حماية نفسه أثناء العمل، لكن في أحيان كثيرة يجمع القمامة بيده، ليضعها في الصندوق، فيس لديه حل آخر.

وأما عن نظرات الناس إليهم كعمال نظافة، أكد عوض شعبان أن هناك بعض المارة ينظرون لهم نظرة طبقية والبعض الآخر يبتسم في وجههم ويحييهم ويحاول أيضًا مساعدتهم في بعض الأوقات، مشيرًا إلى أن الكثيرين يقدرون الدور الذي يقومون به، خاصة بعض جائحة كورونا، وانتشار الوباء.

حي الزبالين

عل جانب آخر يعيش آلاف الأشخاص من مهنة جمع وفرز وتدوير القمامة، فحي الزبالين بمنشية ناصر بالقاهرة، منطقة كاملة يعمل معظم سكانها في القمامة.

سيدة ستينية، اشتعل رأسها شيبًا، الزمن رسم على وجهها ملامح حزينة تنم عن ألم وشقاء امتد لسنوات، ترتدي ملابس بسيطة عبارة عن جلباب أسود وطرحة خضراء، تحاصرها القمامة من كل جانب، وهي منهمكة في العمل، بفرز القمامة، بحثًا عن أشياء لها قيمة تبيعها لتشتري كسرة خبز تسد جوعها، تخرج السيدة في تمام الخامسة صباحًا من منزلها، متوجهه إلى منطقة السيدة زينب، لجمع القمامة من العقارات والشقق السكنية، وتظل حتى الثانية عشر ظهرًا تتجول داخل المنطقة وتجمع أكياس القمامة بيدها دون أن ترتدي قفازًا، فخوفها من الجوع كان أقوى من الخوف من كورونا، ثم تعود لمنطقتها، لتفرز القمامة وتستخرج الأشياء التي تباع منها، هذا مشهد محزن ضمن مشاهد كثيرة بحي الزبالين.

الحي يعيش به ما يقرب من 55 ألف نسمة يعمل منهم بجمع القمامة 35 ألف شخص، ما بين جمع وفرز وإعادة تدوير، والعاملون هناك يجمعون يوميًا حوالي 16 ألف طن قمامة من القاهرة الكبرى وحدها، هذا وفقًا لشحاته المقدس، نقيب الزبالين.

التقينا السيدة مريم عبدالشهيد، من العاملات بحي الزبالين، وتقول لـ'أهل مصر': إنها تعمل هنا مضطرة لتنفق على زوجها المريض وابنتيها ونجلها، فزوجها مصاب بكهرباء زيادة في المخ، جعلته طريح الفراش، لا يقوى على العمل، فاضطرت للعمل للإنفاق على أسرتها، مضيفة: 'الرزق يوم بيوم، وإذا توقفت يومًا عن العمل لن تجد طعامًا لأبنائها.

وتابعت: 'أخرج كل يوم من 5 صباحًا وأظل في العمل حتى المغرب'، وهذه المهنة هي التي جهزت بها بناتي.

وعن الإجراءات الاحترازية للوقاية من فيروس كورونا في ظل الكمامات والمخالفات الطبية التيي تكون ضمن القمامة، تقول: 'الله هو الحافظ، فهذا مصدر رزقي الوحيد، وأجمع القمامة بيدي، وقد ارتدي قفازًا واحدًا يتمزق خلال اليوم وأعلم أنه لن يحمينيي من الإصابة، لكن هذا نصيبي ولقمة عيشي'.

خلال جولتنا داخل الحي الذي كل شبر فيه يمتلىء بالقمامة شاهدنا أن معظم العاملين بمرحلة الفرز من النساء، وأن الرجال لهم مهام أخرى كالجمع وحمل أجولة القمامة والعمل بمصانع التدوير، الغريب في الأمر أنه لا أحد يكترث بالكورونا، لا أحد يرتدي كمامات أو قفازات، أو ملتزم بإجراءات الوقاية، أعتقادًا منهم أن الكورونا لن تدخل حي الزبالين!

ويقول داود عبدالملاك، من سكان الحي، وأحد العاملين بفرز وتدوير القمامة، إن عدد كبير من العاملين هنا أصيب بفيروس كورونا، خاصة الذين يجمعون القمامة، نتيجة طبيعة لعملهم في جمع وفرز القمامة، لكن الحقيقة أن الجوع أخطر علينا من الوباء، مؤكدًا أن العمل بتلك المهنة الشاقة والخطيرة، يعرضهم للكثير من الأمراض والأوبئة فليس كورونا فقط هي عدوهم الوحيد، قائلًا 'أكل العيش مر .. ما باليد حيلة'.

داود يرى أن أهالي الحي هنا يستحقون لقب 'جيش مصر البرتقالي' فهم ليسوا أقل من الأطباء والممرضين والعاملين بالمجال الصحي والذي يطلق عليهم 'الجيش الأبيض'، لافتًا إلى أنهم أيضًا قدموا تضحيات كثيرة من خلال عملهم بجمع القمامة، وأصيب عددًا منهم أثناء العمل، فالدور الذي يقومون به لا يقل عن الأطباء، فهم أيضًا خط دفاع وتصدي للوباء حيث يجمعون القمامة من المنازل والمناطق السكنية، ويخلصون الأهالي منها، ويبعدون عنهم خطر الإصابة بالأمراض والأوبئة وعلى رأسها كورونا. وأوضح 'داود' أنه يجب أن تتغير نظرة المجتمع لهم، كمجرد عمال نظافة، ويجب النظر لهم بإعتبارهم أبطال في ظل جائحة كورونا، ومشاركين في معركة التصدي له.

ناجي عبدالمسيح، أحد العاملين بمهنة جمع القمامة، قال إن عمال الجمع يخرجون في الخامسة صباحًا وربما قبل ذلك، لجميع أحياء القاهرة فهي مقسمة مناطق، وكل واحد منهم له منطقة يتجول فيها ويجمع قمامتها، مابين القاهرة والجيزة والقليوبية، مؤكدًا أن حي الزبالين يعتبر من أكبر الأماكن في مصر لجمع وفرز وتدوير القمامة والمخلفات بأنواعها من ورق ومعان وصفيح مواد بلاستيكية، وزجاج وخلافه، لافتًا إلى أنهم يصدرون بعض منتجاتهم للخارج بعد إعادة تدويرها في صورة أشياء جديدة قابلة للاستخدام.

في المنطقة يوجد عدد كبير من الخنازير المنتشرة بالشوارع والتي تتغذى على القمامة والمخلفات، فهي هناك بالنسبة للأهالي حيوان مألوف، يمرون بجانبه في الشوارع.

رائحة المرض تشع داخل هذا المنطقة، وشبح كورونا يطارد سكانها، في ذلك الحي المنغلق على نفسه، وهناك أيضًا شاهدنا الكثير من الأطفال الذين يعملون بالجمع والفرز داخل شوارع حي الزبالين، فهي مهنة للجميع، رجال ونساء وشباب وأطفال الجميع يخاطر بحياته ويعرض نفسه للوباء من أجل 'لقمة العيش'، فهذا هدفهم الوحيد.

قصة أخرى لكنها ملهمة هذه المرة داخل حي الزبالين، هي حكاية بطلة من نوع خاص، ماما ماجي، إحدى أشهر الشخصيات بحي الزبالين، فهي في الأصل دكتورة جامعية تحاضر بالجامعة الأمريكية، تركت حياتها المرفهة ورغد العيش، لتنتقل للعمل والإقامة بحي الزبالين بمنشية ناصر، وتعمل في مساعدة الفقراء والمساكين وتسليط الضوء على مشكلاتهم وإيجاد حلول لها، هذه السيدة المصرية التي يعرفها معظم سكان الحي، وتربطهم ذكريات جميلة معاها، مؤكدين إنها إنسانة عظيمة 'على حدو وصفهم'.

هذه السيدة القبطية التي استطاعت تقديم مايقرب من 40 ألف مساعدة إنسانية لسكان الحي سنويًا، كما إنها ترشحت 5 مرات للفوز بجائزة نوبل للسلام، وكانت دائمًا ترفض الحديث عن العمل التطوعي التي تقوم به والمساعدات التي تقدمها، لافته إلى إنها لا يهمها الفوز بجائزة نوبل، بقدر مايهمها أن ترسم إبتسامة على وجوه الأطفال، فهذا هدف أسمى

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً