في حلقة جديدة من سياسة المراوغة الأمريكية، خرج الرئيس الأميركي جو بايدن ليحمّل حركة "حماس" مسؤولية "التراجع" عن مقترح وقف إطلاق النار في قطاع غزة، في تصريحات بدت مضطربة ومتناقضة، تعكس ارتباك واشنطن في إدارة ملف المفاوضات، أكثر مما تعكس تقدمًا فعليًا على مسار التهدئة.
وخلال حديث مقتضب في مطار شيكاغو، بعد مشاركته في المؤتمر الوطني الديمقراطي، قال بايدن إن "حماس تتراجع الآن عن خطة الاتفاق"، مضيفًا أن "إسرائيل تقول إن بإمكانها التوصل إلى نتيجة، لكنها تتراجع أيضًا"، في إشارة مبهمة أثارت تساؤلات حول الطرف الذي يعطل بالفعل.
واشنطن تُعيد تحميل الضحية المسؤولية
تصريحات بايدن جاءت بعد 24 ساعة من تلويح وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، بأن المقترح المحدث قد يكون "الفرصة الأخيرة"، في محاولة لممارسة ضغط نفسي على المقاومة الفلسطينية، بينما تتجاهل إدارته حقيقة أن حماس لم ترفض أصل المبادرة، بل تطالب فقط بتنفيذ البنود التي تم التوافق عليها مسبقًا، وفي مقدمتها وقف العدوان وانسحاب الاحتلال من غزة.
لكن واشنطن، كعادتها، تختزل المعادلة في شكلها الذي يخدم الرواية الإسرائيلية، عبر اتهام حماس بتعطيل المسار، وتبرئة تل أبيب التي ما تزال تقصف وتقتل وتعرقل، دون أن تُطالَب فعليًا بالتوقف.
وفي هذا السياق، علّقت صحيفة Washington Post في افتتاحيتها أن: "ملامح الصفقة أصبحت واضحة، لكن استمرار المعاناة في غزة يفضح غياب أي ضغط حقيقي من واشنطن على إسرائيل". وأضافت الصحيفة أن بايدن "يتحدث كثيرًا عن السلام، لكنه لا يفرض أي التزام واقعي على الاحتلال".
حماس ترد وتُحرج البيت الأبيض
حركة "حماس" كانت واضحة في ردها الرسمي، حين أكدت أنها لا تحتاج إلى "مقترحات جديدة"، وإنما إلى آلية واضحة لتنفيذ مقترح بايدن نفسه، الذي تبنّاه مجلس الأمن الدولي لاحقًا. فما الذي تغيّر إذًا؟ ولماذا تصف واشنطن تمسك حماس بالاتفاق الأصلي بأنه "تراجع"؟
في هذا الإطار، قالت Times Union في افتتاحيتها أن واشنطن "تطالب المقاومة بالتنازلات، لكنها لا تطلب من إسرائيل أي التزامات واضحة"، مضيفة أن:"السلام لا يمكن أن يولد من تهديدات أو وعود غامضة... بل من تطبيق عادل ومتوازن".
انكشاف الدور الأميركي: ضغط على الضحية وتواطؤ مع الجلاد
ما يحدث ليس مجرد انحياز تقليدي من واشنطن لإسرائيل، بل أصبح تورطًا واضحًا في تزييف الحقائق وتضليل الرأي العام. إذ تحوّلت إدارة بايدن من راعٍ مزعوم للسلام، إلى طرف يُشغّل أدواته الدبلوماسية لتوفير غطاء لاستمرار العدوان الإسرائيلي.
مجلة America Magazine حذّرت في مقال رأي من أن "الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل يقوّض فرص السلام"، ودعت بايدن إلى "ربط المساعدات الأميركية بوقف العدوان، إن كان جادًا فعلًا".
رسائل مزدوجة عشية الانتخابات الأميركية
تصريحات بايدن الأخيرة تضعه في تناقض حاد مع خطابه الإنساني المعلن. فبينما يُعلن حرصه على وقف إطلاق النار، يسارع إلى تبرئة الاحتلال وتحميل المقاومة المسؤولية، في محاولة مكشوفة لتهدئة الناخبين من أصول يهودية في الداخل الأميركي، خصوصًا مع تراجع شعبيته بين الشباب والتيار التقدمي في الحزب الديمقراطي.
وفي تحليل لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ورد أن "إدارة بايدن تريد حلاً إنسانيًا في غزة دون أن تصطدم بحكومة نتنياهو"، ما يعني أن "البيت الأبيض لا يملك الشجاعة السياسية لفرض ما يدّعي أنه يريده".