اقتبست عنوان المقال، من حوار أجريته مع الكاتب الكبير محمد العزبي في ١١ فبراير ٢٠٢٠، بعد إلحاح وإصرار مني على إجراء هذا الحوار مع عمدة الصحفيين، الذي وافق بعد بضع مكالمات تليفونية، ومن طبيعة الصحفي عند الذهاب لإجراء حوار صحفي مع شخصية مؤثرة وعظيمة لها باع طويل في تأسيس «بلاط صاحبة الجلالة»، لا بد أن تُذاكر «الضيف» جيدًا كي تحصل على نتيجة جيدة، ومع البحث الطويل استطعت أن أحصل على عدة معلومات، أهمها السؤال الرئيسي الذي تستطيع أن تجذب من خلاله الضيف للحديث، ألا وهو: «لماذا لم يكتب محمد العزبي؟».
على باب شقته في مدينة نصر، بادرته بهذا السؤال، فتعجب، ونظر نظرة تحمل كثيرًا من العمق والحزن معًا، مع تنهيدة طويلة، ثم أتبعها بابتسامة صافية، أسكنت الطمأنية في قلبي، ممسكًا بيدي اليمنى، وإذ بنا نتحرك ناحية البلكونة الخاصة به، ليبدأ الإجابة على سؤالي.
مرت ساعة من الوقت، و«العزبي»، يسرد تفاصيل بداية حياته، لكن كان الأهم بالنسبة لي كصحفي، هو معرفة وجهة نظر أستاذ كبير في حال الصحافة حاليًا، فلما سألته عن ذلك؛ قال: «الصحافة في خطر شديد، ودائمًا تتعرض للخطر لسبب أو آخر، لكن أخطر شيء على الصحافة حاليًّا أنها لم يعد لها تأثير كبير، وهذه مشكلة»، وتابع: «لو عندك صحيفة قوية محدش يقدر يعملك حاجة، لا الحكومة ولا غير الحكومة، معندناش صحافة تسليك»، واقع الأمر أن بعض المواطنين يرون في الوقت الحالي أن الصحافة غير مهمة.
إجابة السؤال أراها في كل وقت، حتى عندما أخلد للنوم أتذكرها، إذ كنت أتمنى أن أكون صحفيًّا في عصر «العزبي»، لأجد من يحترم ويقدس المهنة العظيمة الشاقة، أن تكون صحفيًّا في هذا العصر سهل جدًا، لكن أن تكون صاحب فكر، صعب للغاية؛ لأن الصحافة ليست مهنة سن، بل مهنة فكر، والأخطر من ذلك هو منع التعيين في المؤسسات القومية أو الخاصة؛ لأن المتحكم الأول والأخير هو مالك الجريدة، وبالتالي انعدم الفكر في التوقيت الحالي.
أتذكر عندما كنت طالبًا في الثانوية، أعود بذاكرتي للخلف مرة أخرى، ليدور في ذهني أحداث الثانوية والطموحات، لم أنسَ عندما حصلت على مجموع 94%، حينها قررت أن ألتحق بكلية الإعلام، تحديدًا قسم «الصحافة والنشر»، نظرًا لحبي الشديد لصاحبة الجلالة، وإذا بالحلم يتحقق لألتحق بالكلية التي طمحت إليها، ولم أعلم أنني قد أقع في مجال دون مستقبل، يطلق عليه مثل المستشفيات الحكومية، «الداخل مفقود والخارج مولود».
طموحات وأحلام شباب تتوقف على كلمة من أصحاب المؤسسات الصحفية، وهي التعيين للالتحاق بنقابة الصحفيين، أفضل النقابات العمالية في مصر، قلعة الحريات، كم من الشباب تتوقف أحلامهم لحين الوقوف على سلم هذه النقابة والالتحاق بها، فمنا من يتحمل ذُل رؤسائه، ومنا من يعمل بغير أجر لسنوات كثيرة، وكل من عمل في هذا المجال طُبق عليهم هذا الكلام، لكنني أتساءل: لماذا لم نطبق قانون النقابة، وهو التعيين بعد 6 أشهر في المؤسسة؟.
بعد عام من التفاوض مع الكاتبة الصحفية سكينة فؤاد، مستشار رئيس الجمهورية الأسبق عدلي منصور، وافقت على إجراء حوار صحفي معي، كم من السعادة ملأ قلبي، بعد اتصالات تليفونية شبه يوميه، فهي سيدة مثقفة، لها وجهة نظر في حال الصحافة وما يحط بها من مشاكل، عاصرت أحداثاً كثيرة في بناء الدولة منذ حكم الملك فاروق، شاهدة على عدة أحداث سياسية كبيرة، أستطيع أن أصفها بأنها خزينة أسرار ومعلومات ثقافية لمن أراد أن يعرف تاريخ الدولة المصرية.
أعددت للحوار أكثر من 30 سؤالًا، كنت أعلم أنها لن تستطيع أن تجيب عليها جميعًا، نظرًا لكبر سنها، والظروف الصحية التي تمر بها، كنت حريصًا على معرفة أسباب استقالتها من منصبها عندما عينت مستشارًا للرئيس المعزول، إذ كانت إجابتها مقنعة: «كنت لا أرفض الاقتراب من مراكز صناعة القرار لأحقق ما دُعيت إليه الكاتبة، ويشهد الله أنني لم أقترب إلا لأحمل ملفاتي وأخدم من أنتمي إليهم، وللأسف كنت من الذين صدقوا مظلومية الجماعة، وأعترف أن هذا خطأ، وما يرفعونه من شعارات دينية لم يكن إلا غطاء للأطماع كما تبين لي، لكن التاريخ ليس بجديد، وللأسف لم ولن يتغير، ويجب أن نلتفت إلى هذا، ووافقت على الاقتراب من مركز صناعة القرار عندما دعيت ولم أسعَ إلى هذا المنصب؛ لأن لدي أهم ما شرفني الله به وهو الكتابة، والكتابة كانت وستظل أهم وأكبر من أي منصب دعيت لأشغله».
«الكتابة كانت أكبر وأهم من أي منصب دعيت لأشغله».. جملة يجب أن نتوقف أمامها كثيرًا، خاصة في هذا التوقيت؛ لأننا أصبحنا نعتمد على البيانات الصحفية التي تُصدرها المؤسسات للصحفيين، ولم نسعَ لنقل أصوات المواطنين ومشاكلهم، إذ أصبحنا الآن نجد أعدادًا وكمًا كبيرًا من الصحفيين، يعملون في هذا المجال، دون صحافة ميدانية، مع غلق العديد من المؤسسات الصحفية؛ نظرًا لأزمات مالية وغيرها، لكن كانت ولا تزال الكتابة أهم ما يمتلكه الصحفي، ونحن لا نريد سياسيين يديرون المهنة، نحتاج لأشخاص يحافظون عليها، المهنة أصبحت في خطر شديد، لا بد من تدخل أساتذة وشيوخ ومن أسسوها، لوضع خطط جديدة كي تعود مرة أخرى لطبيعتها.