وكأن جرحاً غائراً لا يندمل، ما إن تطأه يغدو مؤلماً، من جديد هزت فتوى لزواج المسلمة من أهل الكتاب -اليهود والمسيحيين- المجتمع المصري، امتد صداها عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى أرجاء الوطن العربي، بل والناطقين بالعربية حول العالم، لسان حال سوادهم يقول "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها"، بينما وجدت أصوات داعية للتحرر من قيود دينية ضالتها، برغم ترسانة التشريعات المدنية العربية التي لا تجيز زواج المسلمة من غير المسلم، باستثناء تونس التي لم تفلح جرأة إلغائها للمرسوم الحكومي، الذي يقضي بعدم السماح للتونسيات بالزواج من غير المسلمين في 13 آب أغسطس2017، في تحريك المياه الراكدة، أو زحزحة أئمة الفتوى في العالم الإسلامي عن موقفهم.
الفتوى التي أطلقتها أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، عضو مجلس النواب الدكتورة أمنة نصير، ذهبت إلى عدم وجود نص قرآني يحرم زواج المسلمة من غير المسلم، واعتبرته جائزا شريطة أن يكون الزوج -يهودي أو مسيحي- من أهل الكتاب. وأضافت: "لا توجد مشكلة في زواج المسلمة من غير المسلم، إذا طبق غير المسلم مع زوجته المسلمة، ما يطبقه المسلم مع اليهودية أو المسيحية، لا يكرهها على تغيير دينها ولا يحرمها من قرآنها أو صلاتها".
علمياً، سلكت أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر مسلكاً مغايراً لأمام هذاً الصرح الإسلامي ومنهجه، حيث تصدى الإمام الطيب لهذه المسألة في كلمة وجهها للعالم من مقر البرلمان الألماني قبل عدة سنوات قال فيها: «إن الزواج في الإسلام ليس عقدًا مدنيًا كما هو الحال عندكم، بل هو رباط ديني يقوم على المودة بين طرفيه، والمسلم يتزوج من غير المسلمة كالمسيحية مثلا؛ لأنه يؤمن بعيسى عليه السلام، فهو شرط لاكتمال إيمانه، كما أن ديننا يأمر المسلم بتمكين زوجته غير المسلمة من أداء شعائر دينها، وليس له منعها من الذهاب إلى كنيستها للعبادة، ويمنع الزوج من إهانة مقدساتها؛ لأنه يؤمن بها، ولذا فإن المودة غير مفقودة في زواج المسلم من غير المسلمة، بخلاف زواج المسلمة من غير المسلم، فهو لا يؤمن برسولنا محمد، ودينه لا يأمره بتمكين زوجته المسلمة -إن تزوجها- من أداء شعائر الإسلام أو احترام مقدساتها؛ لأن الإسلام لاحق على المسيحية؛ ولذا فهو يؤذيها بعدم احترام دينها والتعرض لرسولها ومقدساتها، ولذا فإن المودة مفقودة في زواج المسلمة من غير المسلم؛ ولذا منعها الإسلام».
ولقد أثار ما قاله شيخ الأزهر، تساؤلاً لا يقل أهمية عن تمكين الزوجة من أداء شعائرها، والإيمان بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم، لا سيما أن الزواج سنة الله في الأرض لإعمارها، قال عنه نبي الإسلام فى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في الصحيحين "يولد المولود على الفطرة -أي الإسلام-، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، فما مصير نسلهم؟ لا أظن أنه من قبيل المنطق أن تُربي الزوجة المسلمة جيلاً من الأبناء لا يؤمن بنبيها ورسالته! ولا أعتقد أن زوجاً مؤمناً بيهوديته أو نصرانيته، سوف يمنح اسمه لمسلم يرى في عقيدة أبيه كُفر بالإسلام!
هذا ليس رأي رجال الدين الإسلامي فحسب، لقد حذر عدد من رجال الدين الكاثوليك الإيطاليات من الزواج بالمسلمين، وقد ورد التحذير في وثيقتين تم نشرهما في روما منذ عدة سنوات، وفي عام 2009 حذر الكاردينال خوسيه بوليكاربو البرتغالي، الفتيات البرتغاليات من الزواج من المسلمين، وأرجع ذلك إلى حقيقة أنه من الصعب تربية الأطفال على الإيمان المسيحي بعد الزواج.
وفي واقعنا العملي مآسي تصنع تجارب لمن يعتبر، فقد عَرفت صديقاً مسيحياً -لم يأذن لي بذكر اسمه-، تزوج سراً من مسلمة واضطر في ذلك إلى تقديم هوية مزيفة باسم مسلم حتى يستطيع توثيق عقد الزواج وفقاً لقانون الأحوال المدنية، وما إن أنجبت زوجته طفلاً، تفجرت الأزمة بينهما، لمن ينتسب؟ وأي عقيدة يعتنق؟ في الحقيقة أنتهت قصة الحب المجنونة بمأساة يدفع ثمنها الطفل من براءته ومستقبله المجهول نسباً و عقيدة.
عودٌ إلى صاحبة الفتوي، إذ أردفت بأن العلماء استندوا في هذا التحريم إلى أن الزواج بغير المسلم سوف يزيد من أعداد الخارجين عن الإسلام، وأبلغ الرد على ذلك، قول الله تعالى مخاطباً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الآية 56 من سورة القصص:
"إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، وقوله تعالى في الآية 272 من سورة البقرة "ليْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ"، وقوله تعالى فى الآية 29 من سورة الكهف: "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر، ولعل ما نشهده من وصمٍ غربي للإسلام بالإرهاب والتطرف، على خلفية ممارسات بعض المتطرفين، يجعلنا على يقين بأنه لا يضر الإسلام من خرج منه بقدر ضرره ممن ينسب إليه.
وبالرغم من تعدد الحالات الفردية الخارجة عن تلك النصوص والمؤمنة برباط الحب الذي يصنع المستحيل، وما نقرّه واقعاً مستنيراً أنه لا وصاية أو كهنوت لرجال الدين في الإسلام، إلا أن مكانة الفتوى تبقى ذات أثر كبير في نفوس من يتحرون الحلال والحرام ويبتعدون عن مواطن الشبهات وإن أُبيحت، وتفرض على من يتصدى لها ألا يتبنى رأياً أو منهجاً قد يهدد السلم الاجتماعي.