شاب صغير جاء من قرية بني قريش التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، حاملًا معه أحلامًا طرحها فوق وريقات عنون لها: «القمر يقتل عاشقه»، وبين الصفحات تختبئ آمال وطموحات اطمأنت نفسه من خلالها إلى أن كتابة القصة القصيرة هي مستقبله؛ لكن عين الخبير وفراسة الأديب الحكيم يوسف إدريس انتشلته من هذا الطريق وأشارت إلى مبنى التليفزيون المصري (ماسبيرو) : «أضواء قمرك الحقيقي هناك.. اترك هذه الوريقات واذهب إلى هناك.. هناك ستكون وحيد حامد».
طوى الشاب الحالم آمال النبوغ في كتابة القصة القصيرة مُغيبًا أحلامه في هذا المجال إلى الأبد، وتوجه إلى ماسبيرو عملًا بنصيحة أستاذه التي أيدها كبيران آخران هما: نجيب محفوظ، وعبد الرحمن الشرقاوي؛ ليبدأ قمر كلمات وحيد حامد في السطوع، ورويدًا رويدا أضاء مصر من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها بنبوغ الكلمة، وعبقرية الوصف، وعظمة السيناريو، وحياة الفكر، وفلسفة قراءة المستقبل، وحكمة التنبؤ بأحداثه.
اقرأ أيضًا: "هارب من الأزهر": صفحات من حياة الإمام محمد عبده (1)
كان الأستاذ - في بداية حياته - «نبتة ريفية مصرية نقية»، عاش قبل مجيئه إلى القاهرة آمال البسطاء وأحلامهم.. ضحك معهم في الأفراح، وشاركهم البكاء في الأحزان، وبعد أن جاء إلى عاصمة الثقافة، وتشرب ثقافة العاصمة، تطايرت شهرته في مجال كتابة السيناريو وبات يُشار إليه بالبنان وأصبح من سكان الفنادق الفخمة المتاخمة للنيل.. لم يتغير مثل كثيرين ممن بهرتهم أضواء المدينة؛ ظل كما هو «نبتة ريفية مصرية نقية»، وهذا هو سر عظمة وحيد حامد: «الثبات على المبدأ، وعدم التلون».
في رائعته «البريء»؛ كان وحيد حامد وهو يكتب عن «أحمد سبع الليل»، يُلخص في مكونات هذه الشخصية مأساة شعب غُيب عقله في غفلة من الزمان؛ فبات هؤلاء المغيبون - على غير إرادة منهم - هم وسيلة قمع الأصوات الحالمة بالحرية، وأداة وأد العقول النابضة بالفكر.. مغيبون يفعلون هذا بحسن نية ظنًا منهم أنهم متآمرون على الوطن.
اقرأ أيضًا: رفاعة الطهطاوي.. رائد تحرير المرأة (1 - 2)
لم يفقد الأستاذ الأمل في هذا الشعب ولم يتراجع عن رهانه أن العقل المصري يمرض لكنه لا - ولن - يموت؛ لذلك كان مشهد النهاية - الحقيقي - في «البريء» هو تخلص أحمد سبع الليل (الذي يجسد دور الشعب المغيب) من رؤسائه الذين أقنعوه أن المخلصين لهذا الوطن هم أعداء الوطن.
وما بين آمال استعادة الشعب لوعيه التي تمسك بها وحيد حامد في مشهد نهاية البريء، كانت كلماته التي صدر بها نص السيناريو تأكيدًا لهذا المعنى: «إلى عشاق الحرية والعدالة في كل زمان ومكان.. أهدي هذا الجهد المتواضع».
اقرأ أيضًا: رفاعة الطهطاوي.. رائد تحرير المرأة (2 - 2)
لم تنقطع تجليات الأستاذ ولم تقف عند حد الإبداع فائق الوصف في البريء؛ فها هو في «طيور الظلام» يتقمص دور الوافد إلى الحاضر من المستقبل؛ ليخط بيديه سيناريو ما ستفعله جماعات الإسلام السياسي في مصر إذا وصلت إلى سدة الحكم، وقد كان ما توقعه وأصبحنا نرى ما يحدث في واقعنا أثناء وبعد أحداث الخامس والعشرين من يناير عام 2011 من خلال سيناريو كتبه وحيد حامد قبل ذلك التاريخ بـ 16 عامًا كاملة؛ إنه الإبداع والموسوعية الثقافية والتنبؤ بالمستقبل من خلال قراءة الحاضر بحكمة الفلسفة، وفلسفة الحكمة.
وفي «اضحك الصورة تطلع حلوة»، كان المصور الفوتوغرافي «سيد»، يجسد السواد الأعظم من هذا الشعب في سنوات حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.. الشعب الذي يكد ويتعب ويشقى لينعم ويسعد غيره.. الشعب الذي يتفانى في رسم الابتسامة على وجوه قلة، في الوقت الذي لا تعرف الابتسامة طريقًا لوجه صانعها.
اقرأ أيضًا: «غزوة الأقصر» ورفع «الصليب» داخل المسجد النبوي!
كل فئات الشعب كانت حاضرة في كل سيناريوهات وحيد حامد السينمائية والدرامية.. أنا وأنت وأنتِ وهذا وذاك؛ جميعنا كنا نرى حياتنا اليومية مُجسدة في عمل سينمائي أو درامي من أعمال الأستاذ الذي بات بحق «وطنا احتوى الشعب في كتاباته».
ولو أن عبقرية وحيد حامد توقفت عن حد الإبداع في تشكيل سيناريوهات أعماله من واقع حياتنا اليومية لكفاه هذا؛ لكن ولأنه كان وحيدًا في موهبته متفردًا في عبقريته فقد تجاوز هذا الحد إلى حدود أخرى من التألق والإبداع في مجالات الفكر والتأريخ والفلسفة.
ففي مجال التأريخ؛ آثر وحيد حامد من خلال أعماله وكتابته أن يحفظ لمصر هَويّتها.. عاداتها وتقاليدها في الحارة.. أصالتها ونخوتها في القرية.. ثقافتها وحضارتها في المدينة؛ فجاءت كتاباته صورة حية من عبقرية مصر وجمالها، وكشفت - في الوقت ذاته - المحاولات المستميتة لمسخها إلى دولة بلا هوية.
اقرأ أيضًا: مسيحيون في «المسجد».. ومسلمون في «الدير»
أشهر الأستاذ سلاحه (قلمه) - منذ سنوات شبابه الأولى - في وجه تحالف تجار الدين والسياسة (طيور الظلام)، وحمل راية تحرير العقل المصري من الغزو الوهابي، والدفاع عنه من الاستغلال الإخواني، وحمايته من الفساد السياسي، ولم يتراجع - ولو ليوم واحد - طيلة حياته عن القيام بهذا الدور غير عابئ بأي متاعب أو مخاطر تتهدده جراء مجابهة هذا التيار الظلامي؛ لقد كان يضع أمام عينيه هذا الوطن الذي أدرك بحكمته أنه لن ينعم بالحياة ما دام تجار الدين ينعقون في سمائه وسماسرة السياسة يفسدون في أرضه.
أما في مجالي الفكر والفلسفة؛ فقد كان الأستاذ أحد رواد التنوير ودعاة الإصلاح، يعشق التدين المصري الهادئ الذي لم يعرف نعرات التفرقة والعنصرية والتكفير.. تديّن المحبة الذي لا يكترث بالتفتيش عن عقيدتك؛ لكنه منشغل فقط بإنسانيتك، ويجابه بكل قوة التدين المغشوش الذي تُظهره عناصر جماعات الإسلام السياسي، ولأنه أوتي الحكمة؛ فقد كان في هذا المجال تنويريًّا بدرجة فيلسوف.
عاش وحيد حامد، أستاذًا ومفكرًا ومؤرخًا وفيلسوفًا، مُخلصًا للكلمة؛ فبادلته الكلمة إخلاصًا بإخلاص.. تفانى في محبة الحروف؛ فعشقته.. بذل لها حياته؛ فوهبته الخلود.