عاصم حفني: أوروبا تعتبر الأزهر "مؤسسة رجعية".. والمسلمون يمرون بأكبر أزمة في التاريخ الحديث (حوار - الجزء الثاني)

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية
الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ المسلمون يعيشون في أزمة معرفية ودينية وسياسية واجتماعية.. والنظام العلماني أفضل حل لمجتمعاتنا

♦♦ الإصلاح في السعودية حدث بشكل متسارع فاق توقعات الجميع.. وفقدان الأرضية المعرفية ضد هذا التطور

♦♦ التدين الحقيقي لا يظهر إلا في الدول العلمانية.. وما يروجه أحد الدعاة أمور لا تحدث في 'أفلام البورنو'

♦♦ إلغاء المادة الثانية من الدستور سيحدث عندما يرتقي العقل الجمعي.. ويفهم الناس أنها لن تؤثر على عقيدتهم

♦♦ الغرب أدرك خطورة جماعات الإسلام السياسي.. وتفكيك إمبراطورية الإخوان سيقضي على الجماعة إلى الأبد

♦♦ المسلمون أصبحوا مدعاة للخوف والشك.. والغرب يعتبرهم لاجئين وعالة وعامل ضغط مادي واجتماعي

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

تناولنا في الجزء الأول من حوارنا مع الدكتور عاصم حفني، أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية بجامعتي ماربورج ومونستر بألمانيا، صور واقعية من الحياة التي يعيشها المسلمون في أوروبا، ونقلنا تفاصيل استقائهم معارفهم الدينية من روافد ثلاث، أولها: الأئمة الأتراك التابعين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وثانيها: تيار السلفية الجهادية، وثالثها: تنظيم الإخوان الدولي، وكيف أثرت المادة الدينية المتشددة التي تُبث من قبلِ هذه الروافد في تكوين العقلية المسلمة بأوروبا وأنتجت 'مجتمعًا موازيًا' يعتنق أفراده فكرًا بعيدًا عن النظام الديمقراطي وعن قيم الدولة التي يعيشون فيها، وهذا الذي أدى إلى نشأة التيارات الإسلامية داخل الدول الأوروبية، وجعل تنظيم داعش الإرهابي قبلة وملاذًا آمنًا للكثير من الشباب الأوروبي المسلم.

اقرأ أيضًا: د. عاصم حفني: تركيا تتحكم في الخطاب الديني داخل أوروبا.. الإخوان يسيطرون على مفاصل مؤثرة في الغرب.. وداعش أصبح قبلة لـ"الشباب" (حوار - الجزء الأول)

وفي الجزء الثاني من الحوار، نتناول مع الدكتور عاصم حفني، عدة قضايا هامة أبرزها: أين الأزهر من سيطرة تيار الإسلام السياسي على الخطاب الديني في أوروبا؟ ولماذا يغيب عن المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا ويترك الساحة لعناصر الجماعات المتشددة؟ وهل الأنظمة الأوروبية راغبة بالفعل في التخلص من جماعات العنف والتطرف وفي مقدمتهم تنظيم الإخوان الدولي؛ أم أنهم متمسكون بهؤلاء الموتورين كنوع من الأسلحة الفتاكة التي تدمر الشرق الأوسط؟ وغير ذلك من القضايا الهامة التي نناقشها مع ضيفنا.. وإلى نص الحوار:

الدكتور عاصم حفني في حواره لـ الدكتور عاصم حفني في حواره لـ 'أهل مصر'

♦♦ قلت إن تركيا تسيطر على 75% من المساجد والمراكز الإسلامية في ألمانيا بشكل خاص وفي دول أوروبا بشكل عام، ودعاة الإخوان والسلفية الجهادية يسيطرون على البقية؛ لماذا يغيب الأزهر عن المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا؟

♦ الإجابة على هذا السؤال تتعلق بجوانب عدة؛ الجانب الأول يتمثل في أن الغرب لا ينظر إلى الأزهر على أنه مؤسسة تنويرية، بل يعتبرونه 'مؤسسة رجعية'؛ لأن تاريخ أوروبا عامة مع المؤسسة الدينية (الكنيسة) صعبٌ ومرير، وهذا التاريخ جعل العقلية الأوروبية الحديثة ترفض بالكلية 'مأسسة الدين'، وبما أن الأزهر مؤسسة دينية فأول ما يعنُ في ذهن المواطن الأوروبي مشاهد عصور الظلام وتسلط الكنيسة والبابا، وبالتأكيد الأزهر ليس كذلك لكن هذه هي الصورة التي يراه بها الغرب، وما يجب الانتباه إليه هنا أن الغرب لديه مشكلة مع الدين كمؤسسة وليس كرسالة سماوية روحية وأسلوب حياة للشخص.

ويكمن الجانب الثاني وراء أسباب غياب الأزهر عن المساجد والمراكز الإسلامية بأوروبا؛ أنه وإن كان الأزهر ليس ظلاميًا أو منغلقًا وبه على مستوى الأفراد أناس كثيرون مستنيرين؛ إلا أن المؤسسة الأزهرية على المستوى الرسمي لا تقدم خطابًا تنويريًا معرفيًا يُقنع الغرب بأنه يحتاج فعلًا مساعدة الأزهر، وما يدل على هذا أنه حين قررت الحكومة الألمانية تدريس الدين الإسلامي في جامعاتها، أعلنت حاجتها إلى أساتذة مسلمين من خارج ألمانيا - لأنها ليس لديها أكاديميين متخصصين في هذا الشأن -، واشترطت حيال إتمام هذا الأمر أن يكون هؤلاء الأكاديميين أحرارًا وغير تابعين لمؤسسة، وبالتالي لم يكن الأزهر مصدرًا لهؤلاء الأساتذة الذين تُوقع منهم أن يكونوا مؤقتين لحين تخريج أساتذة متخصصين في دراسات الإسلام من الشباب الألماني نفسه.

وبالرغم مما سبق؛ فإن الفرصة ما زالت متاحة أمام الأزهر - إذا أراد - أن يكون له تواجد في أوروبا عامة وفي ألمانيا بشكل خاص؛ لأن معظم الجامعات ومراكز دراسات العقيدة الإسلامية بألمانيا - وأنا على دراية بذلك - حاولوا أن يكون لهم ارتباط وتعاون مع المؤسسة الدينية في مصر، ولكن هناك تعقيدات ومشاكل في صياغة المواضيع والأفكار والمؤتمرات.

الدكتور عاصم حفني في حواره لـ الدكتور عاصم حفني في حواره لـ 'أهل مصر'

♦♦ تعقيدات ومشاكل من الجانب الألماني أم من جانب الأزهر؟

♦ تعقيدات ومشاكل من جانب المؤسسة الأزهرية؛ أبرزها على سبيل المثال عدم وجود تصور معين أو مادة علمية واضحة يقدمها الأزهر لجامعة ألمانية أو لمركز من مراكز دراسات العقيدة الإسلامية ويقول لهم في هذا التصور أنا ممكن أن آتي إليكم وأدرس هذا، ولذلك فإن غياب هذه الرؤية من أهم الأسباب التي تجعل الألمان يستبعدون الأزهر؛ لأنهم هناك يتسألون: سندعو الأزهر وسيأتي؛ فماذا سيقول؟ سيكلمنا عن أفكار تقليدية من الصحراء - وفقًا لتعبيرهم -، ونحن نريد مسلمين مستنيرين يعيشون الواقع الألماني الغربي القيمي المعرفي، ويقدمون مادة علمية تساعد في تكوين عقلية غربية.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ نعود إلى نشاطات التنظيم الدولي للإخوان؛ هل تفكيك الإمبراطورية الإخوانية في أوروبا يمثل شهادة وفاة حقيقة للجماعة الإرهابية؟

♦ بلا شك؛ لأن الإخوان وإن كانوا استفادوا - كما أشرت من قبل - من مناخ الحرية الغربي، إلا أنهم الآن يعانون من تقيدات عدة تُفرض عليهم في أوروبا، بسبب أن الغرب بدأ يُدرك خطورة جماعات الإسلام السياسي ككل على قيمه وعلى الدولة الديمقراطية الحديثة، وقد بدأت هذه التقيدات بفرنسا ثم ألمانيا ومن بعدهما النمسا التي بالغت في إجراءاتها وأصبحت تُجرم مصطلح الإسلام السياسي، وكل هذا يُشكل طعنة أخرى لتنظيم الإخوان الدولي أو الإمبراطورية - كما وصفتها أنت -.

وما أود التأكيد عليه هنا، أن جماعة الإخوان كتنظيم سياسي تلقى ضربة شبه قاضية بدأت من مصر حين ثار الشعب ضدهم وأزاح النظام الإخواني عن الحكم، ولكن الجماعة كفكرة ما زالت موجودة وهذه هي المشكلة، ولذلك من الأفضل تقديم برامج تعليمية ودينية تنويرية تُعيد هؤلاء الشباب إلى الفكر الإسلامي البسيط، وتقنعهم أن الدين أبسط مما يتخيلون وأن الشأن السياسي يمكن بالفعل فصله عن الشأن الديني؛ لأن السياسة متطورة، إضافة إلى أنها شأن بشري بحت يتم تنظيمه بحسب متغيرات الظروف الاجتماعية والاقتصادية، أما الدين فهو شأن عباداتي خاص يمكن أن ينظم داخل المساجد أو في شكل جمعيات يكون لها دور في المجتمع المدني.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ هذه التقييدات التي فُرضت على جماعات الإسلام السياسي والتنظيم الدولي للإخوان تعني أن أوروبا راغبة بالفعل في التخلص من هذا التيار؟

♦ نعم، أوروبا راغبة في التخلص من الإسلام السياسي، ولكن هذه الرغبة محفوفة بتعقيدات سياسية؛ لأنه لو نظرنا إلى تركيا كمثال، نجد أنها أحد أهم مصادر الإسلام السياسي، ومع ذلك الدول الأوروبية لا تستطيع الاستغناء عن النظام التركي، لأنهم بحاجة إليه في حلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ فتركيا توفر الأرض للتدريبات وتوفر كذلك جنود المشاة المهمين في أي عمليات عسكرية، والأوربيون بحاجة إلى تركيا أيضًا في ملفي الهجرة غير الشرعية واللاجئين، كل هذه الملفات وغيرها تجعل من الصعب قطع العلاقات تمامًا مع نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسبب دعمه لتيارات الإسلام السياسي.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلاميةالدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ هل الهجمة التي قوبلت بها تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الإسلام السياسي أثرت على تعامل الأوروبيين مع المسلمين المقيمين هناك؟

♦ أولًا يجب أن ننتبه إلى أن تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي قال فيها: 'إن الإسلام يعيش في أزمة' لها مؤشر خطير جدًا؛ لأنها صدرت من أعلى سلطة في الدولة، وإن كان هو يقصد بهذا القول المسلمون المتطرفون أو مصطلح 'الإسلام السياسي' على غير ما تم الترويج له، ولعل السبب في تحريف أو إساءة فهم تصريحات ماكرون أن العقلية العربية العامة يصعب عليها الفصل بين 'مسلم' و'مسلم سياسي' أو إسلاموي، هذه مصطلحات أكثر تخصصًا وتفهمها النخب.

ومن اللافت للنظر أن ماكرون بعد هذه التصريحات مباشرة طالب المسلمين في فرنسا بتقديم وثيقة إقرار بالقيم الغربية العلمانية خاصة قيم الفرنسيين (اللائكية)، وتوعد بأن كل من يرفض التوقيع سيُطرد، ومن يوقع سيحاسب على أي خطاب يتعارض مع هذا الميثاق سواء أُلقى هذا الخطاب داخل المسجد أو خارجه.

أما عن قياس تأثير الهجمة على الرئيس الفرنسي في إحصائيات رسمية؛ فهذا أمر صعب خلال الفترة الراهنة، لأن الأزمة حديثة، ولكن بلا شك صورة المسلم في أوروبا تزداد سواءً، وبصفة عامة أصبح مدعاة للخوف والشك، وبات الغرب يعتبره لاجئًا وعالة وعامل ضغط مادي واجتماعي عليهم، لذلك فعلًا الإسلام والمسلمون يمرون بأكبر أزمة في التاريخ الحديث داخل الدول الإسلامية وخارجها، ولذلك أنا أؤيد ماكرون في هذه الجملة.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلاميةالدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ إذن أنت ترى أن الإسلام أصبح بالفعل يعيش في أزمة؟

♦ الإسلام قضيتنا وهمنا، ولذلك أقول بدون أي مواربات: نعم، هذا واقعٌ نعيشه، ولأننا لن نستطيع الفصل بين الإسلام والمسلمين لأنه في النهاية لا يوجد إسلام بلا مسلمين؛ فمرة أخرى: نعم، المسلمون يعيشون في أزمة معرفية ودينية وسياسية واجتماعية، بل وأزمة وجودية، وبالتبعية الإسلام يعيش في أزمة، ولا أقصد هنا الإسلام في مفهومه اللاهوتي الإلهي الصافي، ولكن الإسلام في مفهومه التطبيقي الذي يعني فهم المسلمين للدين ونصوصه وإسقاطها على الواقع، وأيضًا فهم تاريخه وتراثه والتجربة الإسلامية بالكلية، إذا نظرنا إلى كل هذا نجده بالفعل يعيش في أزمة.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلاميةالدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ هل يمكن التفرقة بين الإسلام كرسالة سماوية وبين فهم المسلمين له أو تطبيقه على أرض الواقع؟

♦ التفرقة ممكنة وغير ممكنة. النص نفسه الذي يمثل الإسلام كرسالة سماوية عقدية لا نستطيع الحكم عليه بأنه يعيش في أزمة أو لا؛ لكن فهم النص أو ما نطلق عليه 'التجارب التطبيقية' التي تعكس كيف يحيا المسلمون إسلامهم ويفهمونه ويعيشونه الآن، هذا هو الذي يعيش في أزمة داخل الدول الإسلامية وخارجها، والأمثلة التي تؤكد ما أذهب إليه كثيرة ومتجسدة على أرض الواقع.

ففي الخارج؛ نجد أن المسلمون في الغرب لم يستطيعوا حتى الآن العيش بشكل اندماجي لا يُسبب مشاكل مع الدولة التي يعيشون فيها، فهناك مشاكل للمسلمين في فرنسا والنمسا وألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية، إضافة إلى أنهم يعانون نفس المشكلات في أمريكا وغيرها من دول العالم، وفي الداخل؛ انظر إلى المسلمين في مصر وما سببه التناحر بين التيارين الإخواني والسلفي ورؤيتهم للدولة وعدم انسجامهم معها منذ سنوات وتضاعف هذا الأمر عقب أحداث ما عرف بـ'الربيع العربي'، وانظر إلى تونس وما حدث فيها من تطورات وصعود النهضة وسقوطها، والآن هناك تطور في فكر الأحوال الشخصية ولهذا التطور مؤيدين ومعارضين، وكل هذا التناحر بصور مختلفة يتكرر في المغرب والجزائر والخليج وغيرها من الدول الإسلامية.

وهناك مثال آخر يعكس الأزمة التي يعيش فيها المسلمون، وهو التطور في الأحكام الدينية الذي حدث بشكل متسارع يفوق توقعات الجميع داخل السعودية وفي مدة زمنية تراوحت من 5 إلى 7 سنوات، هذا التطور وإن كان محمودًا في بعض جوانبه؛ إلا أنه لا يمكن أن يحدث تطور طبيعي ومستقر ودائم بهذا التسارع في فترة زمنية قصيرة، لابد من أرضية معرفية تخدم هذا التطور، وهذه الأرضية غير موجودة وهذا يعبر عن أزمة؛ لأنه أمر يُفرض من علٍ.

الإسلام الوهابي في بدايته فُرض داخل السعودية من حاكم، والآن نوعٌ وفهمٌ آخر للإسلام يُفرض من الحاكم، وأنا أؤيد بعض ما في هذا الفهم الجديد ولكن لست مع فرضه؛ بل يجب أولًا تنوير القاعدة العريضة من الجماهير حتى تتشرب هذه الأفكار الجديدة وبالتالي تعكسها واقعًا في حياتها، وحتى الآن الموضوع لم ينتهي لأنه مرتبط بالسياسة أكثر من الدين.

وخلاصة القول في هذه المسألة؛ نعم، المسلمون يعيشون في أزمة، لأننا حتى الآن غير قادرين على حل المعضلة الأساسية التي ذكرتها أنت في بداية الحوار وهي علاقة الدين بالسياسة؛ كيف نرسم علاقة تصالحية تفاهمية توافقية بين الدين والسياسة؟ هذا سؤال مطروح منذ قرون ويزداد طرحه من فترة إلى أخرى، وحتى الآن لا نستطيع وضع إجابة له.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ ومن وجهة نظرك ما هي الرؤية التي تمكننا من رسم علاقة تصالحية بين الدين والسياسة؟

♦ برأيي، أنه يمكن صياغة نوع من العلمانية داخل مجتمعاتنا، وهنا ستواجهنا مشكلة أن البعض ينظر إلى العلمانية كما لو كانت كتابًا يحوي على نظريات جاهزة يمكن تطبيقها في مصر (مثلًا) بنفس الكيفية التي تطبق بها في أوروبا، وهذه نظرة خاطئة ويستحيل تطبيقها على أرض الواقع، ناهيك عن أنها محض خيال.

العلمانية معناها أن ترسم كل دولة وكل ثقافة حدودًا تمايز بها بين الدين والسياسة، هذه الحدود قد تزيد أو تقل حسب طبيعة كل مجتمع، ونحن نطالب برسم هذه الحدود التي تفصل بين الشأنين الديني والسياسي وليس بإلغاء الدين أو القضاء عليه.

ولأن الدولة - وفقًا للمفاهيم السياسية الحديثة - تُدير ولا تملك، وهي كيان اعتباري وليست شخصية طبيعية؛ فبالتالي الدولة (ككيان) ليس لها دين، أما شخوص الدولة أو القائمين على الحكم فيشترط أن يكونوا محايدين تجاه كل القضايا والأفكار، ومن حقهم اعتناق أي دين وممارسة طقوسه - ولكن في حياتهم الخاصة - في ظل نظام القانون العام الذي يحكم الدولة والتمتع بالسلم واللاعنف، وهذا هو شكل من أشكال العلمانية.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ العقلية العربية لديها توجس من العلمانية تأثرًا بتعمد رجال الدين تشويه هذا المصطلح؛ فيكف نقنع هذا العقل السماعي بأن الأصلح لمجتمعاتنا يكمن في صياغة شكل من العلمانية؟

♦ التدين الحقيقي داخل الشخص لا يظهر إلا في دولة علمانية لأسباب عدة، منها: أن الدولة العلمانية لا تطالبك بأن تكون متدينًا وإن كانت تسمح لك بذلك ضمانًا للحريات، إضافة إلى أنك لن تحصل على أي قيمة اجتماعية مضافة من التدين، في حين أننا هنا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نحصل على قيمة اجتماعية بإظهار التدين، فعلى سبيل المثال الفتاة تحصل على قيمة مضافة حين ترتدي الحجاب ويقال عنها إنها مؤدبة وتصلح للزواج والحفاظ على البيت، والشاب يستطيع عن طريق الظهور بـ'رداء' ما أو الانتظام في الصلاة الحصول على قيمة إضافية قد لا تكون صحيحة ومغايرة بالمرة عن حقيقته.

هذه القيم المضافة تدفع البعض إلى إظهار التدين للحصول عليها، ولكن إذا عشت في مجتمع لا يعتبر التدين قيمة مضافة وأنت فعلت ذلك؛ فأنت تفعله عن قناعة خاصة، وهنا يظهر الدين الحقيقي؛ لذلك فالعلمانية ليست ضد الدين، بل هي تعطي فرصة للدين أن يترعرع وينمو ويظهر دون انتظار عطايا أو مكاسب دنيوية، ودون أيضًا (وهذه قضية هامة جدًا) التفرقة بين دينٍ وآخر، فكل الأديان تستطيع الترعرع والنمو والظهور والأنظمة العلمانية تعتبر هذه قضية تعود إلى أصحاب الدين نفسه وقدرتهم على تقديم خطاب عقلاني جذاب يستقطب الشباب أو المستقبلين عامة.

أما بخصوص مزاعم أحد الدعاة المعروفين والتي يروج من خلالها أن العلمانية تعني شيوع الزنا والفحش وتقديم الزوج زوجته للآخرين، فأقول له: 'هذه أمور لا تحدث في أفلام البورنو'، ولا علاقة لها بالحياة ككل وليس بالعلمانية فقط، وبعيدًا عن هذه المزاعم أود التأكيد مرة أخرى على أنه لا توجد صيغة علمانية واحدة نستطيع أن نقول هذه هي الحل؛ علينا أن نعمل نحن على صياغة شكل علماني يناسب مجتمعنا.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ وما هي الصياغة أو الشكل العلماني المناسب لمجتمعنا؟

♦ نحن لا نريد أن تسير السيدات عاريات، ولا نريد أيضًا أن نجبر السيدات على ارتداء أو خلع النقاب أو الحجاب، الزي حرية شخصية؛ إلا إذا تعارض مع مفاهيم أمنية ما، لذلك العلاقة أو الصياغة أو الشكل العلماني المناسب لمجتمعنا سيكون في رأيي أن هناك جانب معاملاتي وجانب عباداتي.

فيما يتعلق بالجانب العباداتي؛ أنا أتعبد بالاتباع - وليس بالتقليد -، وفي الجانب المعاملاتي؛ أنا أتعبد بالإبداع بمعنى أن أكون مبدعًا ومغيرًا ومطورًا في الجانب المعاملاتي الذي منه السياسة والاقتصاد، لأني بهذا أحقق مقصدًا إلاهيًا وهو تطوير وإعمار الكون، والرسول صلى الله عليه وسلم جاءت كل تصرفاته الدنيوية طبقًا للمصلحة وكان فيها تغيير وتطوير وصُوب له وعُدل ونُوقش بما يحقق المصلحة العامة، ولم يكتب كتابًا يُرينا كيف نحكم ولا توجد نظرية سياسية إسلامية لأن هذا الجانب تُرك للعقل يغيره ويطوره حسب المصلحة، وكذلك لا توجد معاملات اقتصادية وبنوك إسلامية لأن كل هذه أسماء ظهرت لأغراض سياسية.

هذه العلمانية التي أفهمها وأريدها، والتي تترك الجانب الشخصي والعادات والتقاليد والأخلاق لقناعات الشخص نفسه، إذا وصلنا لهذا الشكل سنحقق مقصد الإله في مسئولية الفرد عن أفعاله، وفي أن تكون عبادته بالإتباع، ومعاملاته بالإبداع، ويصبح الإنسان مؤمنٌ متبعٌ مصلٍ صائم مزكٍ بدون أفكار كثيرة ونقد كثير في الأمور التعبدية، ويصبح ذات الإنسان مبدعٌ ومتشككٌ ومفكرٌ ومطور في الجانب الدنيوي سواء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

♦♦ إذًا أنت مع إلغاء المادة الثانية من الدستور أم مع الإبقاء عليها وفقًا لهذا الطرح؟

♦ الدستور يعكس فكر المجتمع، وهو في النهاية توافق مجتمعي، لذلك المادة الثانية مهمة في ظل الظروف الحالية، ولكنها بالمناسبة غير فعالة، يعني المادة الثانية تقول إن الإسلام دين الدولة وأن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الأول للتشريع، وبعدها المادة الرابعة تقول السيادة للشعب، إذًا هناك أيضًا تعارض؛ فهل السيادة للشعب أم للشريعة؟!

والجميع يعلم أن هذه المادة وضعت لإرضاء التيار الإسلاموي في زمن الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقت أن حدث تقارب بينهما للقضاء على الشيوعيين والاشتراكيين والناصريين، في حين أنها لم توضع في دستور 23 كمثال، ولم تكن هناك مشكلة في عدم وضعها أو وجودها من الأساس مع أن لجنة الدستور وقتها كان فيها مسلمين ومسيحيين.

الدكتور عاصم حفني في حواره لـ الدكتور عاصم حفني في حواره لـ 'أهل مصر'

♦♦ وهل نحن قادرون على إلغاء هذه المادة في عصرنا الراهن أم أن ديكتاتورية الجموع تحول دون هذا؟

♦ مع الوقت ممكن أن يحدث هذا وتُلغى المادة الثانية، وهنا يأتي أهمية دور النخبة والمشتغلين بالشأن العلمي والتعليمي والديني في الرقي بالعقل الجمعي إلى درجة من الوعي وإفهام الناس أن إلغاء هذه المادة لن يؤثر على عقيدة الشخص؛ لأن الإنسان ببساطة لا يحتاج إلى نص دستوري يأمره بالتدين.

عندما نصل فعليًا لهذه القناعات عن طريق تغيير مناهج التعليم والتوعية الإعلامية وتوعية الأئمة، يمكن إلغاء هذه المادة؛ لأنه عندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك قانون أو دستور يقول للمسلم صلِ أو صوم. الأوامر موجودة في النص لكن لم يكن هناك دستور مُلزم بتنفيذها، والأشخاص كانوا يطبقونها لأنهم مقتنعين بها، وهذا هو روح الدين الذي يخاطب الضمير والقلب، ويقول لك إنك إذا طبقت نسكًا دينيًا عن قناعة داخلية؛ هنا فقط تكون قد قطعت خطوة في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.

الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية الدكتور عاصم حفني - أستاذ الدراسات والحضارة الإسلامية

في الجزء الثالث من الحوار:

♦♦ التراث تجربة بشرية وليس عملًا مقدسًا.. ونحتاج إلى صياغة فهم جديد لـ'النص' يخدم حياتنا وواقعنا المعاصر

♦♦ الأزهر ليس لديه رغبة في الإصلاح.. و90% من المشايخ يحاربون التجديد حفاظًا على سلطتهم الروحية والمادية

♦♦ التفاسير والمرويات التراثية المناقضة للعقل دفعت الشباب إلى 'الإلحاد'.. وتقديم خطاب عقلاني بداية طريق الإنقاذ

♦♦ الدين تجربة شخصية من حق الجميع إبداء رأيه فيها.. والتحدث في الشأن الديني ليس حكرًا على خريجي الأزهر

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً