عندما التقيت الإذاعي القدير الأستاذ صالح مهران رحمه الله قبل عقدين من الآن، لم أكن أقدِّر أن علاقتي به ستمتد إلى هذا الزمن أو ستأخذ الشكل الذي أخذته من الارتباط والحميمية والزمالة والصداقة.
كنت وقتها مشغولًا – وأنا أتهيأ لمرحلة الدكتوراه – بالبحث عن منهج علمي لفن الإلقاء الإذاعي والتليفزيوني؛ إذ يفتقد هذا الفن وجود منهج علمي ذي أسس نظرية وأصول منهجية، فالتدريب على الإلقاء كان ولا يزال يعتمد على ما يمكن أن يطلق عليه "نقل الخبرة" وهو النمط الوحيد الذي كان متاحًا ولايزال، هكذا تدربنا وتدرب كل جيلنا وأجيال من بعدنا بهذه الطريقة التي تعتمد النقل والتلقين فقط دون معرفة أسس هذا الفن وأصوله العلمية، مما جعل فن الإلقاء الإذاعي ومعاييره في معظمها انطباعية تستند إلى الذوق الشخصي فقط، وهو أمر يبتعد بهذا الفن عن إطار علمي لازم له ولكل فن.
وكنت أتساءل : إذا كان تقليم الأظافر وتصفيف الشعر أصبح له أكاديميات ومعاهد تُعلّمه، أفلا يليق بفن مؤثر مثل هذا أن يمتلك منهجًاعلميًا مُحْكَمًا؟
لم تكن هناك مراجع علمية يمكن أن نستند إليها في تأسيس علم مثل هذا، اللهم إلا كتاب عبد الوارث عسر: "فن الإلقاء" وهو كتاب عرفت فيما بعد من الأستاذ صالح أنه يصلح للإلقاء المسرحي والتمثيلي ولا يصلح للأداء أمام الميكروفون للمذيعين ومقدمي البرامج والمراسلين.
وما قرأتُه ودرسته من كتب في علم الأصوات – على أهميتها – لم أجد فيها ما يفيد عمل المذيع إلا فصولًا قليلة تتعلق بمخارج الأصوات وصفاتها، ومواضع النبر والتنغيم على إطلاق يحتاج إلى تقييد وإحكام.
التقيت الأستاذ صالح أثناء دورة تدريبية لمذيعي قناة النيل للأخبار عام 2001، وجلست أنصت، فوجدتني مبهورًا برؤية مختلفة لفن الإلقاء الإذاعي يختلف تمامًا عما عهدته من قبل؛ إن الرجل يمتلك المنهج الذي أبحث عنه، وجدت عنده إجابات لأسئلة كثيرة وعلامات استفهام في فن الإلقاء كانت تؤرقني، كان الرجل يجيب بتدفق لا ينقطع ورسوخ قدم واضح. ظللت أتتبعه ولزمته بعد ذل، وأنا أناقشه في مصادر هذا المنهج، وأحاوره حتى أثقل عليه أحيانًا وأدوِّن وراءه وهو يتحملني بصبر وتحدٍ.
أخبرني الأستاذ صالح أنه استقى هذا المنهج من أكثر من علم وفن، فلا يوجد كتاب واحد ولا مصدر واحد تستطيع أن تجد فيه بغيتك؛ فمن علم الأصوات ومن علم اللغة وفن التجويد وفن الموسيقى والمقامات وفن البلاغة ومن بعض المصادر الأجنبية (أطلعني على بعضها) استقى صالح مهران منهجه المتفرد في التدريب على الإلقاء أمام الميكروفون.
أخبرني الأستاذ صالح أنه ناقش أستاذنا العلامة الدكتور كمال بشر في منهجه ذاك فتوقف عنده بشر بعدما استمع إليه في محاضرة كاملة، ثم قال له: اكتب هذا الكلام يا صالح، فهو كلام جديد في بابه.
رحم الله صالح مهران بقدر ما ترك من علم ينتفع به.