في حياتي المهنية التي عملت فيها بين عشرات الصحف في ستة دول على الأقل، لم أمكث أبدا عامين في نفس المكان، كنت اتنقل بين مكاتب وفروع لنفس الصحيفة داخل الدولة التي أعمل بها أو حتى أترك المؤسسة بأكلمها سواء للعمل في مؤسسة أخرى، ولكن الشاهد أنني لم أعش شهر رمضان المبارك في نفس المكان أبدا طول عملي، في مهنة تسرق العمر وتحرق أعصابنا بلا رحمة لكننا نحبها أكثر حتى نحب أنفسنا، ولكن المفاجأة أنني اليوم أدخل عامي الرابع في 'أهل مصر'، وهى مناسبة لافتة في حياة صحفي نزق لم يطق أبدا قيود العمل في مكان واحد، التقيت ابنتي اليوم في 'أهل مصر'، وهى تحتفل بعيد ميلادها السابع عشر، وتذكرت أنني التحقت بالعمل في 'أهل مصر'، في تاريخ مقارب لتاريخ عيد ميلاد ابنتي وهى في الثالثة عشر من عمرها.
لعل المفارقة أن 'أهل مصر'، لم تكن مثل مؤسسات أخرى عملت بها ونشرت في صحفها الورقية ومواقعها الإليكترونية، فمعظم المؤسسات التي عملت بها كانت بالأساس مؤسسات مملوكة لأحزاب قوية وغنية ونافذة في بلادها، وبعضها كان يتبع الملك أو الرئيس في هذه الدولة، بل أذكر أنني كتبت في صحيفة مغربية كان رئيس تحريرها في نفس الوقت هو رئيس وزراء المغرب في هذا الوقت، وكنا في بعض الحالات نجد أصحاب سمو أو وكلائهم بين الصحفيين في صالات التحرير يدعونهم لمناسبات أو يوزعون عليهم الهدايا، ولكن في 'أهل مصر' وجدت مؤسسة تحارب ظروف فرضت عليها لتبقى مستمرة، بالرغم التحديات والعقبات التي توضع أمام المؤسسة وإن كنت أظن أن هذه التحديات كانت بمثابة أكسير الحياة، التي أعطت المؤسسة قدرة فريدة على الاستمرار، والبقاء رغم الصعاب انطلاقا من القاعدة التي تقول إن الأزمة التي لا تقتل صاحبها تعطيها قوة إضافية، وتتحول هذه الحياة لأكسير حياة لمؤسسة تستمر وسط أجواء عاصفة.
شابات وشباب رائعون يتجاهلون كل وزير وينشرون ما هو أهم من أخبار وزارته
في 'أهل مصر'،شاهدت شابات وشباب رائعين، بعضهم أنهى دراسته لتوه، وقليل منهم لديه قدر يسير من الخبرة في مدارس صحفية مختلفة، ولكنهم مع ذلك نجحوا في خلق تيار اجتماعي فريد في الصحافة الإنسانية وقد لا يكون معظمهم قد قصد أن يفعل ذلك، ولكنهم في النهاية أسسوا لتيار اجتماعي جديدة في الصحافة المصرية.. تيار لم نعرفه من قبل يقرأ هموم الناس العاديين في القرى والريف وأرشيف المحاكم.. في صحف أخرى كان من الطبيعي أن محرر يتصل بالوزير ليحصل منه على آخر أخبار الوزراة، ولكن شابات وشباب 'أهل مصر' وهم يتجاهلون العقبات التي يضعها بعض القائمين على الإعلام في الوزرات، نجحوا بالرغم من ذلك في أن ينشروا ما هو أهم من أخبار الوزير ووزراته.
مدرسة أهل مصر تؤسس لنهاية بلا رجعة لصحافة مصطفى وعلى أمين
إن ما تؤسس له مدرسة 'أهل مصر'، هي أن الصحافة الخبرية التي جلبها الأخوين مصطفى وعلي أمين من الولايات المتحدة قد انتهت إلى غير رجعة، وحتى مدرسة ما بعد الخبر التي حاول عرابو المدرسة الأمريكية في الصحافة العربية، أن يحافظوا بها على ما تبقى من جوانب الصحافة الخبرية هى الأخرى انتهت، فكلا المدرستين، الصحافة الخبرية وصحافة تفسير الخبر، قد انتهت ببساطة لأن المواطن الصحفي قد استطاع أن يحل محل المخبر الصحفي، في أن ينقل الحدث وينقل تداعياته في التو واللحظة، بمجرد حدوثه باستخدام هاتفه الجوال وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد يفسر هذا كساد الصحف وحتى تراجع الدخول على مواقع كثيرة لا تزال حبيسة نشر أخبار الوزير والمحافظ، ولكن سوف تظل قصص الناس العاديين البسطاء مثل الزوجة التي تغضب من زوجها أو الأب الذي يعمل في وظيفتين اثنتين أو حتى أكثر من هذا ليلبي نفقات أسرته، والأم التي تستدين لتزوج ابنتها وغيرها من الاف القصص الإنسانية التي تنشرها أهل مصر وتنفرد بمعظمها، هى لبنات المدرسة الجديدة التي تؤسس لها أهل مصر بالقائمين على المؤسسة والعاملين فيها، مدرسة التيار الاجتماعي الجديد في الصحافة الإنسانية، وهو تيار يندرج علميا تحت لافتة أوسع هى (أنسنة الإعلام)، وهو باب جديد من أبواب الإعلام نجحت أهل مصر في الولوج من بوابته بدون ضجيج اعتادنا على مثله من آخرين يحدثون ضحيحا لأنهم هم في حقيقة الأمر أواني فارغة.
كلمة أخيرة هى أنه كان بودي أن اذكر اسم كل من القائمين على 'أهل مصر'، أو العاملين فيها فردا فردا وأن اشير بجوار اسمه لإنجاز قدمه، ولكني خشيت أن اتهم بالمجاملة أو التملق ويعلم الله أني احمل للجميع كل تقدير، كما خشيت أن أنسَ اسم زميلة أو زميل منهم، فيحزنه نسياني لاسمه وهو لا يعلم أني ضعيف الذاكرة في الأسماء، ولكني أحسب أن ذاكرتي حديدية في تذكر المواقف بحلوها ومرها.