أيامنا الحلوة.. الهجرة من اللون الرَمادي للون الأسود

الكاتب محمود خليل
الكاتب محمود خليل

رغم شَبَح الدمار الشامل الذى يُخيم على العالم بسبب الحرب الروسية، إذ أصبحنا جميعاً تحت رحمة ضغطة زِر قد يضغضها أحدهمفى لحظة نَصر أو تهور أو يأس، ضغطة زِر كفيلة بأن تودى بالعالم كله للفناء ، وإن حَدَث ونجينا ونَجَا العالم فربما تختفى الحضارة ونفقد كل ما أنجزناه على مدار التاريخ فى لمحة عين وتصير البشريةإلىحياه بدائية لم نَختبرِها من قبل ولم يَعَشّها أجداد أجدادنا حتى! لكن– والحمد لله - لا زال هناك أمل فى تجاوز الأزمة بلا حرب عالمية وبلا دمار شامل، لا زال الأمل قائماً فى إستكمال رحلة الحياه و الحضارة لا زال قائماً (لسة الأمانى ممكنة على رأى الكِنج).

من المؤكد أننا نحب الحياه والحضارة ونتمنى إستمرارهما وإزدهارهما لكننا نحلم بالحياه فى عالم أفضل بعد إنتهاء الأزمة، وقد أثبتت الأزمة أن الحياه فى عالم أفضل هو شئ مُمكن وغير مُستحيل، فالعالَم بشكله الحالى هو عالم لا طعم له ولا لون (وما يتبكيش عليه!)، نعم نريد الحياه لكننا نريد الحياه فى عالم أرقى وأكثرعدالة وإنسانية وإحتراماً حقيقاً، عالم ذو معايير ومقاييس وألوان واضحة وضوح الأبيض والأسود، عالم حقيقى واضح المعالم والألوان لا يكتسى باللون الرمادى المُحايد!

أعادت الأزمة الروسية للناس الأمل فى إستعادة التوازن العالمى وفى إنتهاء سيطرة قوة غير مُنصِفة مليئة بالعُقد النفسية والمُنتاقضات، قوة حديثة لا حضارة لها ولا تاريخ، قوة غنية بالمال والثروات لكنها لا تبالى إنجاءالمالمن حلال أوحرام، قوة (مُحدِثة نعمة) لا أصول لها ولا تقاليد، قوة بلا مرجعية دينية تُلجِمها وتُذكِرها بقدرة الخالق، قوة بلا لُغة مُستقلة تُميزهامع أن اللُغة هى عماد الحضارة، تلك القوة التى (كَبسِت) على أنفاس العالم فى الثلاثين سنة الأخيرة وأحالت العالم إلى عالم لا لون له ولا طعم.

الحكاية بدأت بعد إنهيار الإتحاد السوفيتى فى ديسمبر 1991 عندما إنتقل العالم من مرحلة القُطبين إلى مرحلة القُطب الواحد فى سابقة لم تَعشها البشرية طوال تاريخها، إذ تُحدثنا كُتب التاريخ التى درسناها فى مدارسنا وجامعاتنا أو التى قرأناها عن قُطبين أو مجموعة أقطابسيطرت على العالم فى كل العقود والعهود، إذ إنتقل العالَم من الصراع بين الفُرس والروم إلى الصراع بين إنجلترا وفرنسا إلى الصراعبين الدولة العثمانية وأوروبا إلى الصراع بين ألمانيا والعالم إلى الصراع بين روسيا وأمريكا وصولاً إلى مرحلة اللاصراع الغريبة التى نعيشها من 1991!.

توقف الصراع وإنتصر القُطب الأوحد ودانت له السيطرة،أصبح العالم تحت سيطرة قُطب واحد غني بالمال والموارد، قوى التسليح ومُتقدم علمياً وتكنولوجياً، لكنه أيضاً قُطب لقيط لا أب له ولا أم، لا تاريخ له ولا أبطال، وجَد هذا القُطب نفسه مُسيطراً على دول تملك التاريخ والحضارة وأصول الأشياء، ولأن التاريخ لا يُشترى ولأن حضارة ألاف السنين لا يُمكن إختصارها فى أيام فلم يَعد أمام ذلك القطب إلا حل واحد! لابد من حضارة جديدة يصنعها القُطب الأوحد من بدايتها بنفسه وحسب معايير يضعها هو.

وبناءاً عليه وحسب الخطة الموضوعة قرَّر القُطب المُسيطر أن يُعيد تعريف الأشياء وأن يُخضِع العالم كله لمقاييس ومعايير جديدة، مقاييس تخترق الحياه اليومية وتَحكُمها وتتحَكّم فيها، مقاييسستؤثر فيما بعد على كل أسرة وكل صاحب عامل بل وستؤثر على إيمان الشخص ومُعتقداته ، تلك المقاييس والمعايير والتعريفات تم إختصارها فى كلمة واحدة (العولمة)، تك الكلمة الذىتداولناها أيامها فى منتصف التسعينات ولم نفهمها كلنا أو لنقل لم يفهمها إلا بعضنا، وحتى من فَهِمها منا فإنه لم يفهم كل أبعادها إلا بعد حين، ثم أنه لا حيلة لنا فى كل الأحوال سواءاً فهمنا أم لم نفهم (مش حتفرق كتير!)

إذن لم يجد القُطب القوى ظاهرياً والمُهترئ الضعيف داخلياً أى طريقة أخرى ليُسكِت أصوات الحضارات الأصيلة أصحاب التاريخ وصُناع الجغرافيا ويُسيطر عليها إلا بأن يصنع للبشرية منطقة رُمادية بلا روح ليعيشوا فيها جميعاً، ، عالم جديد تحكمه (العولمة)، نجح القٌطب الأوحد فى إيهامنا أن للجميع فرصة فى النجاح والتميز والسعادة والنفوذ لكنه إحتفظ لنفسه بالصكوك والشهادات التى تُثبت النجاح وتوفر السعادة، نجح فى إيهامنا وإقناعنا ووعَدَنا بحاضرجميل ومُستقبل أجمل بشرط أن ننسى ماضينا وحضارتنا، وأقنعنا -تحت بند المساواه والديموقراطية- أن الأغلبية تكفى لتغيير أى واقع وأنها أكثر شرعية وأهمية من الجمال والذوق والعادات والتقاليد.

إجتاحت العولمة أرجاء الدنيا وأصبح العالم كله يأكل من مطاعم واحدة لها فروع فى كل الدنيا، أصبحنا نشرب نفس المشروبات، نلبس من نفس المحلات، وإجتاحت حُمى (الفرينشيز) كل الدنيا وتبارى الجميع فى فتح فروع لأى مطعم أو ماركة من الدول المُسيطرة فى الدول الأخرى، إختفى الطابع المُميز لمأكولات ومشروبات الدول وإختفت الماركات المحلية التى كانت تُميز دولة عن أخرى، قبل العولمة ولمن لا يعرف كانت الناس تُسافر فى نفس الدولة لمدينة ما لتأكل طعاماً مُميزاً أو تشرب مشروباً مُميزاً أو تشترى قماشاً مُحدداً هذا فى داخل الدولة نفسها، عشنا جميعاً فى منطقة ذات لون رمادى بلا تميز لشئ على شئ، أصبحنا نُقيم الأكل على حسب مواصفات فى جدول صغير على ظهر غلاف كل ما نشتريه، خَلطنا الحار مع الحلو مع المُر فى أكلاتنا والأعجب أننا (حبيناه)

أما فى الصناعة والمجالات العلمية فقد تمت السيطرة على العالم من زاوية مُختلفة، إذ إجتاحت حُمى شهادات الجودة والمعايير كل أرجاء الدُنيا، ظهرت شهادات (الأيزو) وشهادات المعايير الدولية فى كل المجالات و أصبح لكل مجال لِجان تُجيز أوتمنع، تُبارك أوتلعن، ولا مكان لك ولا مجال للنجاح إذا لم تحصل مٌعداتك وأدواتك ومُنتجاتك على الشهادة الفُلانية أو العلانية، بل لا مجال لك أنت شخصياً للعمل إذا لم تُعادل شهاداتك العلمية بالشهادة الفلانية والتقييم العلانى، أصبحنا نسعى جميعاً خلف نفس الشهادات ونفس التقييم ونفس المعايير، فقط إرضاءاً لحُكم الأسياد! لم تَعُد كلمة (صنايعى كويس) أو (دكتور شاطر) أو (مهندس فاهم) تكفى.

إجتاحت حُمى الإحصائيات والأرقام (المسعورة) كل مجالات الحياه وسيطرت عليها، أصبحنا نتكلم بالأرقام فى كل شئ وأصبحت الأشياء تُرتَب فقط بالأرقام والإحصائيات، حتى الأعمال الفنية والإبداعية تُقيم بالإعلانات ونِسب المُشاهدة، وتفوق المغمورون على المشهورين والمُسِفّون على أهل الرِقى والفن الأصيل، فى ترجمة واضحة لفلسفة القُطب المُسيطر الذى يكره الأصالة لأنه لا يملكها ويستخف بالماضى لأن لا ماضى له.

ثم فقدت الرياضة مُحتواها كأداه تواصل وهواية وترفيه بعد أن تحولت لوظيفة وأموال وإعلانات تحت إدارة صارمة من إتحادات دولية تتدخل فى الشئون الداخلية للدول تحت مُسميات مُختلفة (إنتخابات.. شفافية.. )، صارت الفِرق الوطنية إختياراً غير مٌفضل للاعبين تحت إغراء أموال الإحتراف، وتم تخويف اللاعبين من إظهار ميولهم السياسية والوطنية فأصبحت الفِرق الوطنية بلا طعم وأصبحت مشاهدتها أقل جذباً ومُتعة مُقارنة ببطولات المُحترفين، إرتاح القُطب المُنتصر المعدوم الإيمان من ذِكر أى كيان أو إيمان أو إنتماء فى أى محفل رياضى.

أما القِيَم والأخلاق فحدث ولا حرج، إذ تمتع المُنحرفون وأصحاب الأخلاق الوضيعة بحماية لم يسبق لها مثيل وتم تأمين أجواء مثالية لهم ليُمارسوا بذاءاتهم وقذاراتهم بدون إزعاج بل وفى حماية قوانين صارمة تنصر المُنحرِف وتدمجه فى المجتمع وتُشيطن من إعترض وتُصوره كمُعتدى.

لكن القُطب الأوحد لم يكتفِ بهذا إذ لجأ للتدمير المباشر لبعض الدول ذات الحضارات القديمة، كما تعمَّد ورعى وبارك عمليات التهميش السياسىوالتقزيم لدول أخرى، فقط لأن لها تاريخ!ا، وتمَّ تعظيم وعملقة كياناتودول صغيرة ظهرت فقط لتُحارب وتعادى الدول ذات الحضارات القديمة الراسخة والأمثلة كثيرة وحدث ولا حرج .

وصلت البشرية تحت قيادة ذلك القُطب الأوحد لمرحلة من التدهور لم تشهدها فى تاريخها، لم نَعُد نبكِ على الدنيا ولم تَعُد الحياه شيئاً جميلاً، وإزداد اليقين حتى لضعيفى الإيمان وأصحاب المعاصى أن فى الموت راحة وسعة مقارنة بالمهازل التى نعيشها!

المُهم أنه وفى وسط هذا الظلام الدامس يظهر لنا الأن أن ثمة نور فى نهاية النفق، وأن كلمة (لا) ممكنة، يبدو أنه من الممكن لدولة أو مجموعة دول أن تعيش خارج النظام العالمى دون أن تسقط، نعم من الممكن أن تعيش خارج (السويفت) وخارج (الأيزو) وخارج (الفيفا)، عادى (إعمل إنت كيان زيهم!)

فى رأيي أن مَن يسقطون اليوم قتلى وجرحى فى الحرب الروسية الأوكرانية إنما يسقطون فداءاً للبشرية كلها، يسقطون فى رحِلة كفاح طال إنتظارها للهجرة من المنطقة الرمادية لمنطقة طبيعية فيها الأبيض وفيها الأسود.

WhatsApp
Telegram