ما أكثر ما ننسى الفرق بين الخِلاف والإختلاف، ننسى إن الله قد خَلَقنا مُختلفين، وأنه سُبحانه وتعالى جعل فى إختلافنا أسباب الحياه، فما مُعاملاتنا اليومية بين تجارة وتعليم وعَمَل وزواج وسَفَر إلا ثمرة ذلك الإختلاف، وإختلاف قدراتنا وإمكانياتنا وجِنسنا وخُلُقنا وخِلقتنا هو ما يدفعنا للتعامل مع الأخَر طلباً للتكامل، فالإختلاف هو الحياه، أما الخِلافات والصِراعات والحروب فهى الموت المُحقق، وهى نتيجة مُباشرة للفَشل فى التعامل مع الإختلاف.
ويُفترَض أن يكون الإنسان مع من يختلف معه على حالة من ثلاث حالات، فإما أن تنتفع به، كأن تتعلم ممن يفوقك عِلماً أو تنتفع بإنتاجه وصناعته إن كان صانعاً أوتتبع مذهبه إن كان من أصحاب الفِكر والإجتهاد، وأما الحالة الثانية من حالات التعامل مع الأخَر فهى أنتتركه على حاله إن كان لا يؤذيك ولا يدخل فى مجال إهتمامك أو معرفتك أو علمك، وأما الحالة الثالثة هى أن تراه على باطل أو شر أو ظُلم فُتُحاول أن تنصحه وتُصلح من سُلوكه، وتُنظِم الشرائع السماوية والقوانين المدنية والدولية كل معاملاتنا الواقعة تحت كُل حالة من الحالات الثلاث السالف ذكرها، ولا تحدث الخلافات والحروب إلا إذا إختل ميزان العلاقات وتجاوز أحدنا فى حق الأخر مُتخطياً تلك القوانين والشرائع فيحدث الخلاف والصراع وتنشب الحروب.
ونار الخلاف تحتاج لمن يأججها ويثيرها، والتَطرُفهو وقود الخلاف، وشجرة التَطرُف بذرتها موجودة فى الإنسان، فإما أن يقضى عليهامن إبُتلى بها وإما أن يستسلم لهافتُهلكه وتُهلك من حوله، والمُتطرفون موجودون حولنا ونراهم فى كل يوم وفى كل مكان وفى كل مجال.
ومارأيناه مؤخراً على مواقع التواصل فى النقاش الدائر حول الصحفية المُناضلة شيرين أبو عاقلة وهل هى شهيدة أو غير شهيدة هو مثال حى على التطرف الفكرى الممزوج بالجهل وسوء الأدب! فالطريقة التى تم بها إغتيال الأستاذة شيرين والمكان والزمان مُلهمة جداً، وهى قادرة على إثارة النقاش الحُر النبيل حولمئات الموضوعات النبيلة الراقية (الوطن والقضية والوحدة والإنسانية والحُرية و..)، لكن العجيب أن يسيطر ذلك الموضوع (شهادة شيرين من عدمها) على المشهد وأن يطغى على ما عداه.
والمُسلم سليم النفس والعقيدة لا يستدعى فى موقف الموت إلا الحزن والعزاء وإستخلاص الدروس والعِبَر، ويستحضر المُسلم هذه المعانى فى موقف الموت العادى فما بالك إذا إقترن الموت بأرض مسلوبة وقضية أُمة، والمُسلم الحَق يتبع أخلاق نبيه الهادى عليه الصلاه والسلام، وهو يُشارك الأخرين أحزانهم ويحترم هيبة الموت ونُقدر إحترام الأخرين لمن فقدوهم فلا يتكلم إلا بالخير ولا يُجادل فى مُعتقَد ولا يناقشه فى هكذا موقف! وقد جَمَع المُتطرفون المُشاركون فى الجَدَل العقيم الدائر حول شهادة السيدة شيرين مع التطرف سوء الخُلُق.
والتطرف فى هذا الجدل الدائر ليس فى صحة شهادة السيدة شيرين أو عدم صحتها، إنما التطرف هو فى إثارة قضية خلافية فى غير موضعها، والمُتطرف الذى أثار هذا السؤال فى هذا الموقع إنما أثارها فى وسط الزخم العاطفى الحادث بعد واقعة الإغتيال ليضع المسلمين فى رُكن هم ليسوا أصلاً مُلزمين بالبقاء فيه! وأصر ذلك المُتطرف أن يُطاردهم ليل نهار بسؤال سخيف (هل شيرين شهيدة أم غير شهيدة)؟ ولَعِب ذلك الخبيث على وتر العاطفة والجهل عند عامة الناس وأجبرهم على البحث عن إجابة سؤال هُم ليسوا أصلاً مُطالبين بإجابته.
والحقيقة أن شهيد الوطَن هو من مات وهو يُدافع عن وطنه، وشهيد الكلمة هو من مات وهو يُدافع عن كلمته، وشهيد الصحافة هكذا، وشهيد مصرهو لقب نُعطيه لمن مات فى سبيل مصر وشهيد أمريكا هو لقب نُعطيه لمن مات فى سبيل أمريكا! وشهيد الصحافة هو لقب نُعطيه لمن مات فى سبيل الكلمة وشهداء الجيش الأبيض لقب أعطيناه لمن مات وهو يُداوى ويُطبب! و يُفترض فى شهيد مصر أن يكون مصرياً أولاً وأن يكون شهيد الصحافة صحفياً أو مات فى سبيل الصحافة وإلا فلا منطق فى إطلاق اللقب عليه!
وما يحدث الأن هو سؤال غير متخصص فأنت ببساطة تسأل فى الشارع الخطأ وفى العنوان الخطأ! والسيدة شيرين هى شهيدة كلمة وشهيدة حرية وشهيدة فلسطين وشهيدة العرب وهى شهيدة مسيحية ارثوذكسية إذ أنها تنتمى لهذه الفئات وتلك الطوائف، لكنها ليست شهيدة يهودية وليست شهيدة مسيحية كاثوليكية حتى فهى لا تنتمى لأى من هذه الطوائف! لكن المتطرفون بارعون فى خلط الأوراق و إثارة الفتن ولذلك فهم يُثيرون السؤال الخطأ فى الوقت الخطأ مع الشخص الخطأ وهو طبع أصيل فيهم، إذ هكذا يعملون وهكذا يزدهرون!
وحتى فى الموضوعات الأقل أهمية لا يترك المُتطرفون فرصة إلا وإستغلوها، وقد نجحوا فى ذلك على إختلاف الموضوعات وقامت الصراعات والخلافات لأتفه الأسباب! ألم يَمُت الألاف فى ملاعب الرياضة هنا وهناك على خلفية صراع نشأ بسبب إختلاف ميولهم الرياضية؟ ألم يَمُت الألاف أيضاً فى شتى أنحاء العالم على خلفية صراعات حزبية سياسية بل وفى داخل الحزب الواحد!
وقانا الله شرالفِتَن والتطرف والمُتطرفين وجَعَل أيامنا وأيامكم حُلوة!