أيامنا الحلوة.. باريودوليا!

محمود خليل
محمود خليل

كعادة كل ( الترندات trends) تأتينا قصة ما عبر مواقع التواصل، تشتعل جذوة نار فى أول يوم حول القصة الجديدة ثم تتوهج فى اليوم التالى بعد أن تُغذيها القصص والصور والحكايات الصادقة والكاذبة، ثم -وبشكل مُفاجئ- تنطفئ كُلياً بغير أثر وبلا عودة، وتنتهى القصة قبل أن نعرف حتى نهايتها، ولا يبدو أن ذلك يُضايق أحداَ فالكل سعيد وراضى ولم نر أبداً من يعترض على تلك النهايات المُفاجئة وكأن ذلك شيئاً طبيعياً مع إنه ليس طبيعياً على الإطلاق! ولذلك وقبل أن ندخل فى صلب الموضوع وجب التنويه أن هذا ليس سلوكاَ طبيعياً وأن السلوك الطبيعى يُحتم علينا أن نعرف نهاية ما بدأناه، وكما قال نزار قبانى على لسان نجاه الصغيرة (وإن من أشعل النيران يُطفيها!)

إستيقظنا ذات يوم على صورة مُلتقطة من كوكب المريخ نشرتها مواقع التواصل مع سيل من التعليقات والتفسيرات، وتُظهر الصورةجبلاً من جبال المريخ به تشكيل حجرى يُشبه البوابة، وتبدو البوابة كما لو كانت محفورة فى الجبل، وقد تم إلتقاط الصور من المسبار Curiosity Rover (كريوسيتى)، والمسبار هو عبارة عن مركبة بحجم سيارة صغيرة ذات عجلات ضخمة تسبه عجلات سيارات الدفع الرُباعى، وقد أرسلته (ناسا) عام 2011 بغرض أخذ عينات من تربة المريخ وتحليلها، وهو مُجهز بمجسات وأدوات معالجة ومعامل تساعده على ذلك، كما أن دراسة مناخ كوكب المريخ كان أيضاً من مهام (كريوسيتى) الذى يُرسل نتائج أبحاثه وتحليلاته لـ(ناسا) بشكل مُنتظم، والهدف الأساسى من كل هذا هو إثبات وجود حياه على سطح المريخ من عدمه، وتركز (كريوسيتى) على إكتشاف المياه فأينما كان الماء كانت الحياه! ولا تتوقع (كريوسيتى) أن تُقابل كائناً ما او شئ من هذا القبيل مما يتداوله البسطاء!

ويتحرك مسبار (كريوسيتى) عادة فى مجال مُحدد على سطح المريخ مُستخدماً اطاراته الضخمة فيتسلق الجبال وينحدر فى الوديان ويلتقط الصور، وفى إحدى رحلاته وفى أثناء تسلقه لجبل على المريخ اسمه Gale (جيل) إلتقط الصورة صاحبة الترند وأرسلها للأرض لمركز ناسا كالعادة، وكانت ناسا قد ابتكرت وسيلة لطيفة للتقريب بين الناس وبين الأبحاث العلمية والإكتشافات فأنشأت حساباً لـ (كريوسيتى) علىTwitter تَبِث منه تغريدات بين الحين والأخر تُصور فيه تطورات رحلتها وما تراه وتكتشفه على سطح المريخ، وفعلاً نشر حساب كريوسيتى والذى يديره أحد العلماء غالباً الصورة موضوع التريند، وعلقت ناسا على الصورة تعليقاً علمياً بحتاً عن الصخور والترسيبات والمياه، ولم يتخيل أصحاب كريوسيتى وناسا وقتها ما سيفعله بها محترفى الترند.

إحتفى محترفى الترند بالصورة وأكرموا وفادتها وقاموا بتكبير جزء صغير فى الصورة الأصلية، وأصبح ذلك الجزء الصغير بعد تكبيره شكلاً صخرياً مُشابهاً للبوابة الحجرية، وأتَت الصورة المُكبرة بثمارها ونجحت فى إجتذاب أنظار المُتابعين فى شتى أنحاء العالم وإحتلت فى يوم واحد كل صفحات مواقع التواصل الصادرة بكُل اللغات، وتبارى الجميع فى إبتكار تفسيرات لتلك الصورة الغريبة، غير أن أحداً منهم لم يفكر أبداً فى الرجوع لناسا ليسأل أو يستفسر عن التفسير، إذ لم يكن الغرض من تلك الإجتهادات معرفة الجقيقة أبداً وإنما كان الغرض دائماُ هو جذب المزيد من التعليقات بهدف إنتشار أوسع (للترند) !

أما أول تلك التفسيرات والإجتهادات وأكثرها منطقية فقد جاء من إستراليا وقد جاء مُتطابقاً مع المهمة الأساسية للمَركبة إذ فُسرِت البوابة على إنها من صُنع كائنات فضائية إستوطنت الكوكب يوماً ما، أما المصريين فقد شبهوا البوابة بمداخل المقابر المَلَكية الموجودة فى وادى الملوك فى الاقصر، وذهب هؤلاء بعيداً إذ قالوا أن الفراعنة ربما كانوا هنا فى المريخ يوماً ما، وأما السعوديين فقد رأوا تطابقاً واضحاً بين البوابة وبين بوابات منطقة العُلا الأثرية حيث قامت حضارة ثمود قوم صالح وهم من إشتهروا بنحت الصخور، أما الأردنيين فقد رأوا تطابقاً بين بوابة المريخ وبين أثار مدينة البتراء الأثرية! والحق أن محترفى الترند من كل تلك الدول قد نجحوا وإستفادوا أقصى إستفادة من ذلك الترند إذ لعبوا على وَتَر التاريخ الخاص بكل دولة وكل حضارة ونجحوا فى الحصول على ما أرادوا من إعجاب ومشاهدات ومشاركات قبل أن يتوقفوا تماماً عن الحديث عن الموضوع باحثين عن موضوع أخر، فالظاهر تاريخ وحضارة وعِلم والباطن تواصل إجتماعى.

وفى عالم موازى (لكنه حقيقى) ورداً على كل تلك الإجتهادات الخاطئة نشر حساب (كيريوسيتى) على الـ (تويتر) تغريدة ساخرة قالوا فيه أن هؤلاء الذين رأوا فى صورة البوابة ما ليس فيه ما هم إلا مجموعة من البائسين المُصابين بال Pareidolia وهو رؤية شئ ما أو معنى فى أشياء لا معنى لها، وتحدث تلك الظاهرة أحياناً نتيجة لمرض نفسى!

إذن فقد سَخَر منا (كريوسيتى) وإلتمس لنا عُذر المرض النفسى ولم يشأ أن يكشف الجانب الأسوأ فى القصة وهى أننا حولنا حتى العِلم إلى (سبوبة) ومكاسب مادية

رزقنا الله وإياكم حب العِلم والعلماء وجعل أيامنا وأيامكم حلوة

WhatsApp
Telegram