يختلف خبراء الاقتصاد حسب توجهاتهم الفكرية ونظرياتهم الاقتصادية في توصيف الأوضاع الحالية للاقتصاد المصري، فمنهم من يرى أن الأزمة الاقتصادية الحالية هي نتاج لسياسات عقود ماضية قضت على قوة الدولة الاقتصادية ممثلة في القضاء على القطاع العام وتهميشه وبيع شركاته ومصانعه وسيطرة الرأسمالية ورجالها ليختل التوازن وتتوالى الضربات ما بين خصخصة و فساد ونهب قروض بالمليارات وغيرها من الأحداث والسياسات التي يدفع ثمنها الاقتصاد المصري حتى الآن.
فيما يحمل البعض الآخر سياسات الحاضر المالية والنقدية جزء كبير من المسئولية ويدعونا للعودة لنفس السياسات الرأسمالية القديمة التي كانت سببا في تدهور الأوضاع قديما وحديثا.
بين هذا وذاك أنقل لكم رأي قامة اقتصادية ووطنية كبيرة ترد على هؤلاء وهؤلاء وتوضح نقاط هامة جدا قد تكون غائبة عن المشهد بقصد أو بدون قصد، تلك القامة الاقتصادية توجه رسالتها للكاتب الصحفي والإعلامي إبراهيم عيسى، ولما لهذه الرسالة من أهمية قررت نشرها دون الإشارة للقامة الاقتصادية الكبيرة لتصل إلى كل خبراء الاقتصاد ولعموم الشعب المصري قبل وصولها لإبراهيم عيسى والذي غالبا ما وصلت إليه مباشرة من تلك القامة الاقتصادية الكبيرة.
فإلى نص الرسالة ..
شاهدنا برنامجكم المحترم و استضافتكم للرأسمالية المصرية تدلوا بدلوها في السياسات النقدية و المالية و تكيل الاتهامات والانتقادات للاقتصاد المصري و سياساته يمينا و يسارا و من كل اتجاه.
حقيقة يصعب علينا ان نري الصورة مشوشة لكم و للمواطن و وجدنا ان الموضوعات لا يتم تناولها بالعمق الكافي و المعرفة المطلوبة
و لم تسلم سياسات اسعار الصرف و الفائدة و البورصة و ميزانيات البنوك و مراكزها النقدية من كل هذا النقد .
و حيث ان الموضوعات كبيرة و متشعبة و متداخلة و يتم تناولها منفرطة و متفرقة في حين ان جميعها مرتبطة و متأثرة بعضها البعض ، فسوف احاول في سطور قليلة محاولة توضيح بعض الاساسيات التي لم يتم التطرق اليها .
فقد وجدنا ان العوامل المؤثرة في السياسات الاقتصادية كلها قد تركت و تم التركيز علي القشور و السطوح .
و في حين أن السياسات الاقتصادية الكلية كانت قد اسست عبر عشرات السنوات بناء علي توجهات متطابقة مع أفكار ضيوفكم من الخبراء ، نجد اليوم هؤلاء غير راضين عن النتائج ، بل نصبوا من أنفسهم نقاد للنتائج التي هم اساسا من أسسوا لها علي مدي عقود . و علي الخصوص عقد ما قبل ٢٠١١ عندما كانوا هم الداعون لبيع أصول الدولة وتحويلها كلها لأسهم و توزيعها علي المواطنين حتي يلتهمها الاوليجاركيين مثل ما حدث في الاتحاد السوفييتي المنحل .
و لنتذكر معا بعض من هذه التصرفات ، بيع شركات الدولة للقطاع الخاص و في بعض الأحيان تمويل هذا البيع من البنوك المصرية ، بمعنى بيع الشركة بلا مقابل و هذا ما أوقفه البنك المركزي بقراراته في عام ٢٠٠٥.
و حقيقةً لم يكن البنك المركزي ابدا محبوبا و مقبولا من هؤلاء فلقد كانت الرغبة الشديدة في الحصول علي كل شيء بدون قواعد هو دافعهم و كانت تساندهم حكومة تتبني عن إدراك او عدم إدراك فكرة كل شيء مباح للقطاع الخاص أو لهؤلاء الاوليجاركيين، علي زعم ان هذا هو الانفتاح و التقدم و حرية الاسواق و الاقتصاد و انهم هم العاملون ببواطن الأمور و أن البيروقراطية الحكومية المصرية الجاهلة لا تتحدث حتي الإنجليزية و بعيدة عما يحدث في العالم من تقدم .
وانتعشت بورصتهم عن طريق بيع الشركات الحكومية و صالوا وجالوا في البورصة و العمل الراسمالي و كونوا الثروات .
وكان من اساسيات السياسات التي انتهجت سياسة التجارة الخارجية الحرة بزعم أيضا ان هذه هي التوجهات الرأسمالية المنشودة فان ابرام اتفاقيات التجارة الحرة لتنفتح أسواقنا المصرية علي مصراعيها امام البضايع الأجنبية الشديدة المنافسة فتهاوت الصناعة المصرية الضعيفة و الزراعة أيضا أمام هذا الطوفان من الواردات و بدأ المواطن المصري يتحول إلي النمط الاستهلاكي من أجل هذه السلع الجاذبة، و تعود المواطن علي نمط من الاستهلاك لم نعرفه في تاريخنا حتي دخل الريف المصري سوق الاستهلاك لكل شيء و بدأ استنزاف موارد مصر المحدودة من النقد الأجنبي أو الموارد الانتهازية الوقتية التي جاءت نتيجة خصخصة بعض الشركات العامة .
و بسياسات مالية غير مدركة مصاحبة لسياسات خطيرة في التجارة الخارجية و في ضوء إهمال الصناعة الحقيقية التي تقوم علي القيمة المضافة للاقتصاد المصري و ليس الصناعة التي قامت علي استيراد عوامل الإنتاج من الخارج انهارت الصناعة والزراعة حتي وصل الوضع أن مصر أصبحت تستورد احتياجاتها الضخمة من الغذاء من الخارج و الذي من المتوقع أن تصل فاتورته هذا العام الي ١٥ مليار دولار . و هذا الضعف الاقتصادي الذي تحول الي اعتماد تام علي الخارج أصبح مهددا للاستقرار، بعد أن أصبحت العوامل التي تمس معيشة المواطن كلها خارج السيطرة و في سيطرة الاسواق الدولية
و بعد أن أصبح المجتمع متعودا علي هذه السلع وهذا النمط من الاستهلاك أصبح من اللازم على الدولة توفير احتياجاته و أصبحت مستويات الأسعار و التضخم تحت سيطرة المنتجين في الخارج .
وعلي مدي سنوات و نمو المجتمع و عدد السكان بدأ العجز في ميزان التجارة الخارجية لمصر في التفاقم ، و هذا العجز مطلوب له تمويل نقد أجنبي و بالتالي زادت الالتزامات المالية و الضغوط علي مستويات الأسعار .
هذه روشتة هؤلاء أصحاب المنهج الغربي الذي كان دائما يبحث عن السبل للسيطرة علي مقدرات اقتصادنا عن طريق سلعه و الدفع بمجتمع الرفاهية . و لكن الاوليجاركيين لم يكونوا يعبأون بالمواطن و قدرته ، حيث بدأ المواطن في الاستدانة لتوفير الاحتياجات و أصبحت القروض الخاصة أساسية في حياته اليوم .
و عندما يقوم البنك المركزي بزيادة أسعار الفائدة لتعويض المواطن عن التضخم يثور هؤلاء بحجة أن مصر لديها أعلي اسعار عائد في العالم و ان هذا بؤثر علي البورصة المصرية و لكن ماذا عن ٢٠ مليون مواطن يعيشون علي العوائد لمدخراتهم فهذا غير مهم .
و في حين أن الأسر المتوسطة و البسيطة من ثقافتها الادخار فلقد كبرت مدخراتهم الوطنية في حين أن هؤلاء الاوليجاركيين يحتفظون بمعظم مدخراتهم خارج البلاد.
و استعجب من اهتمامهم الكبير بالبورصة و هي الفكرة والغرض منها ان تكون مصدر لتوفير رؤوس الأموال للمشروعات ، و هذا لم يحدث تقريبا و أصبحت هي فقط بورصة للمضاربات و الاتفاقات غير المعلنة التي تحقق خسائر للمجتمع و عندما يتدخل الرقيب لضبط قواعد التعامل يتكالب عليه أصحاب المصالح بالضغوط والإعلام أو الوسائل الأخري و لم أري في العالم
مؤسسات رقابية تنتقد من الشركات والمستثمرين المراقب عليهم .
و طبعا هؤلاء مرضي عنهم في أوساط صانعي السياسات في الولايات المتحدة و يتم دعمهم و لما لا .
ثم الان يتحدثون عن النقد الأجنبي و يدلون بدلوهم في السياسات العامة و هم حقيقة لم يدربوا التدريب العملي الكاف علي هذه الامور الفنية الغاية في التعقيد
فمثلا قرار أسعار القائدة و حين نراهم يتكلمون عنه بكل بساطة رغم انه يتم بناء علي تحليلات و برامج معقدة جدا و هو امر خطير .
هذه بعض الخواطر لموضوع كبير و لكن يجب ان يكون واضحا ان اساسات المناخ الاقتصادي الذي تم ارسائه قبل ٢٠١١ افتقدت في رايي الادراك و الفهم العميق لتداعيات هذه التوجهات علي المدي الطويل .
و حاليا تحاول الدولة تدارك هذه النتائج لتوجهات سياسات يتم تصحيحها تدريجيا الأن و هذا واضح في توجهات الدولة في الاهتمام بقطاع الزراعة الذي تم إهماله عشرات السنين حتي تحولت ١،٥ مليون فدان إلي حدائق فاكهة في حين نستورد المواد الغذائية الأساسية مثل القمح والذرة و زيت الطعام والأسماك واللحوم و القول بعشرات المليارات من الخارج .
و بدات صناعات تقودها الدولة و جهاز مشروعات الخدمة الوطنية من أجل التصدير و تصدر فعليا لأربعين دولة و هذه مشروعات أتت في صمت و ترى الشركات الدولية انها تدار بكفاءة كبيرة و انضباط و خبرة مهندسين في الجهاز و خبراء علوم و كيمياء في مشروعات كيماوية و بتروكيماوية.
حقيقة وأنا أعمل في مجال المال و الأسواق دوليا و داخليا منذ أكثر من أربعين عاما، أري أننا بعد أن قررنا ان القطاع المملوك للدولة غير ناجح و أهملناه عن خطأ، و أن القطاع الخاص فتحت له الأسواق علي مصراعيها لسياسات من رأيي انها كانت قاتلة لانها خلقت فرص عمل لشعوب الدول الاخري علي حساب مواطنينا بفتح ابواب الاستيراد بدون ضوابط و تدهورت الصناعة المصرية المجدية ، لم تنجح تجربة القطاع الخاص في تحقيق التوازن الاقتصادي و النقدي و بالتالي فقدنا هذا وذاك ، و نحن الأن و منذ سنوات نعمل في سياسات تصحيحية طبعا بالتاكيد تجد المقاومة من ذوي المصلحة الخاصة ، و لكن الدولة لا تعمل لصالح فئة و لكن لمصلحة الجزء الغالب من المجتمع المصري .
انتهت رسالة القامة الاقتصادية الكبيرة التي كان قرار نشرها نابع من حق الشعب في سماع كافة الآراء واستشراف المشهد من كافة جوانبه ليتمكن من تكوين رؤية واضحة غير منقوصة.. حفظ الله مصر وشعبها ومؤسساتها من كل سوء.