في 12 مارس 1938، أي بعد عامين من أولمبياد برلين، غزا الجيش الألماني 'الفيرماخت' النمسا، وأعلن هتلر أن ضم فيينا إلى بلاده سوف يؤدي لمولد ألمانيا الكبرى 'المستفتى عليها بنعم'، تحت إشراف عسكري صارم، بنسبة 99٪ من قبل سكان البلدين في 10 أبريل 1938.
قبل أسبوع واحد من الاقتراع، وعلى سبيل الاحتفال بـ 'لم الشمل' بين شعب البلدين الناطقين باللغة الألمانية، قرر القادة النازيون تنظيم لقاء كرة قدم ودي في فيينا بين ألمانيا وأوستمارك، الاسم الذي أطلق لاحقاً على النمسا السابقة والتي أصبحت مقاطعة ألمانية، نتيجة هذه المباراة الدعائية المؤيدة للتايخ- التي سميت فيما بعد Anschlussspiel أو 'مباراة الضم'- المقرر عقدها في 3 أبريل 1938 في ملعب Praterstadion، تم الاتفاق على نتيجتها مسبقًا من قبل السلطات، إذ يجب أن تنتهي المباراة بالتعادل 0-0 من أجل إرضاء كلا الفريقين وتجسيد وحدة التايخ في المساواة الرياضية.
غير أن لاعب من فيينا ببنية جسدية ضعيفة سيقود السيناريو المحدد مسبقًا للمباراة، اللاعب كان يُلقب ب 'موتسارت كرة القدم' وأحياناً 'دير بابيريني '(رجل من ورق) بسبب بنيته الجسدية الضئيلة وقدرته على مغالطة دفاعات الخصم بخفة ورشاقة، اللاعب كان يُدعى ماتياس سينديلار ويعتبر في ذلك الوقت أحد أفضل المهاجمين في العالم.
كان المهاجم النمساوي الأصل من مورافيا، وتعلم كرة القدم في الشوارع المتعرجة لمناطق الطبقة العاملة في فيينا، وأظهر مستويات رائعة مع المنتخب النمساوي الذي سيطر فيما بعد على كرة القدم الأوروبية، مما جعله يطلق عليه اسم 'فريق الأحلام' Wunderteam.
لكن ماتياس سينديلار وزملاؤه يدركون أن ضم النمسا سياسياً مرادف أيضًا للضم الرياضي، وبناء عليه فإن المنتخب النمساوي لم يعد موجودًا رَسْمِيًّا ويجب دمجه في اختيارات المنتخب الألماني الأقل بكثير من ناحية المستوى.
وفي 3 أبريل 1938، وقبل دقائق قليلة من دخول الملعب للمباراة التي كانت بمثابة مهزلة سياسية لخدمة مجد ألمانيا الكبرى، تحدى سينديلار السلطات النازية في غرفة خلع الملابس من خلال الإصرار على اللعب بالقميص الأحمر والأبيض وهو الزي الخاص بفريق الأحلام.
وبعد تذكيرهم بأنه ممنوع تسجيل هدف واحد، سمح المنظمون للنمساويين بارتداء ألوانهم التقليدية، وأمام ما يقرب من 60 ألف مشجع يلوحون مِيكَانِيكِيًّا بأعلام الصليب المعقوف، تجري المباراة في صمت شديد.
لم يتم تسجيل أي أهداف خلال الشوط الأول بأكمله، ولكن لم ينخدع أحد في المدرجات، إذ أظهر فريق الأحلام النمساوي بعبثية تفوقهم الفني على المنتخب المتغطرس المكون من 'إخوانهم الألمان' من خلال الضغط عليهم في أرجاء الملعب، مما سبب حرجا غير مسبوق وضاعف من الأخطاء الفادحة لا سيما عند اقترابهم من منطقة الجزاء.
ولكن في الدقيقة 78 انهار الوضع الغريب، ولأن شعورا عارماً بالغضب كان يتملكه لم يستطع ماتياس سينديلار إلا أن يفتتح التسجيل ببراعة، ليشير بعدها بعلامة النصر ولتمتلئ المدرجات بالرهبة من قيام سينديلار وزميله في الفريق كارل سيستا بأداء رقصة مبهجة وقحة أمام المدرجات الرسمية لكبار المسؤولين النازيين الذين أصابهم الذهول.
وبعد بضع دقائق، تلاشت الرغبة في المساواة الرياضية بين الشعبين عندما سجل سيستا هدفاً ثانياً قاتلاً بتسديدة هائلة من ركلة حرة على بعد 45 متراً وسكنت شباك المانشافت.
على النقيض من نموذج البنية الجسدية الآرية القوية، فإن هذا 'الرجل الهش' أو 'من الورق' كما يطلقون عليه، ومعه كارل سيستا، البولندي الأصل والملقب بـ 'السمين'، يسحقان أبواق الدعاية النازية الشمولية بهدفين.
وابتهج اللاعبون النمساويون، الفخورون بأنهم لعبوا كرة قدم بموهبة وبكرامة رغم تهديدات المسؤولين النازيين، وتم تهريب عدد قليل من اللافتات النمساوية للتعبير عن موقفهم برفض فريقهم للضم الرياضي في أثناء اللعب، لكن في غرف خلع الملابس كان اللاعبون يرتجفون بالفعل.
فبعدما أذل سينديلار السلطات النازية بجرأة يُحسد عليها، كان الجميع على يقين بأن اللاعب النحيف قد وقع بذلك على شهادة وفاته.
غير أن شعبية لاعب كرة القدم في فيينا ثمينة للغاية وهو ما يدركه النازيون جيداً، لذا فقد فضلوا استغلال نجومية اللاعب والتلاعب بصورته.
ومن هذا المنطلق، وفي نفس يوم الاستفتاء على ضم النمسا إلى التايخ الثالث، الموافق 10 أبريل، نشرت الطبعة المحلية من Völkischer Beobachter، الجريدة الرسمية للحزب النازي، صورة لماتياس سينديلار مع عنوان ضخم: «جميع لاعبي كرة القدم يشكرون الفوهرر من أعماق قلوبهم ويدعون للتصويت بـ 'نعم'!».
وبعد شهرين، وبمناسبة بطولة كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في يونيو 1938 بفرنسا، قام المدرب الألماني، سيب هيربيرجر، بضم العديد من اللاعبين السابقين في فريق الأحلام النمساوي لفريقه في محاولة لرفع المستوى الفني لمنتخب الماكينات.
أبدى النظام النازي استعداده للتجاوز عن تصرفات سينديلار إذا قبل الأخير الانضمام إلى المنتخب الوطني. ولكن، مهاجم فيينا رفض العرض متعللا بركبته ذات الإصابة المزمنة وكبر سنه.
وكان آخر ظهور علني لسينديلار في ملعب كرة قدم يوم 26 ديسمبر 1938 بألوان فريق 'أوستيريا فيينا'، ليهزم هيرتا برلين بهدف وحيد بتوقيع سينديلار، ليبدأ بعد تلك المباراة في العيش بشبه سرية مع رفيقته اليهودية الإيطالية كاميلا كاستاجنولى.
وتم تعقبهما من قبل الشرطة، بعد إدراجهما في قوائم على أنهما 'متعاطفان مع اليهود والتشيكيين والديمقراطيين الاجتماعيين'، قبل أن يتم العثور على اللاعب ورفيقته جثتين هامدتين في شقتهما في 23 يناير 1939. وعزت الرواية الرسمية للدولة وفاتهما إلى التسمم بأول أكسيد الكربون.
جدير بالذكر أن هذا المقال جزء من كتاب 'Une histoire populaire du football' تاريخ شعبي لكرة القدم تأليف ميكائيل كوريا، وترجمه عن الفرنسية: محمد عبد الفتاح السباعي، وصادر عن دار نشر 'المرايا للثقافة والفنون'