بعد خسارة نهائي كأس العالم أمام الأورجواي، في 16 يوليو 1950، بنتيجة هدفين لهدف باستاد ماراكانا، عاشت البرازيل تلك الهزيمة كدراما وطنية، وصدمة تاريخية باتت تُعرف منذ ذلك الحين بـ'تروما ماراكانا'.
حيث أن إخفاق منتخب السيليساو عكس الفشل الذريع لأمة بأكملها تحاول بناء هوية جماعية متعددة الأعراق من خلال كرة القدم.
وكان المتهم الرئيسي في تلك الهزيمة المذلة هو حارس المرمى صاحب البشرة السمراء، باربوسا، الذي حُكم عليه بالعيش منبوذاً في بلده وبات رمزاً لسوء الطالع لدرجة منعه من حضور أي مباراة أو تدريب للمنتخب البرازيلي. كما أدت «تروما ماراكانا» إلى تفاقم التحيزات العنصرية في أروقة كرة القدم البرازيلية، حيث اتُهم اللاعبون السود بأنهم غير مقاتلين وغير مشاكسين بشكل كافٍ على أرض الملعب، وأصبحوا مشتبها بهم أيضًا في كونهم غير قادرين على تحمل الضغط النفسي المتأصل في بطولة بحجم كأس العالم. وفي تقرير رسمي صادر عن الاتحاد البرازيلي لكرة القدم عام 1956 يمكن أن نقرأ: «يفقد اللاعبون الزنوج جزءًا كبيرًا من إمكاناتهم في المسابقات العالمية، وبما أننا نمارس لعبة أوروبية في الأساس، فيجب علينا 'تبييض' المنتخب الوطني من خلال استبعاد اللاعبين الأفرو برازيليين» الذين يميلون، وفقًا للأكلشيهات العنصرية، إلى «اللمحات الفنية الرائعة أكثر من الانضباط الاستراتيجي».
ثم تمر السنوات ليظهر شابان، موهوبان، مبدعان، جارينشا وبيليه، يشكل وجودهما في منتخب السامبا انعكاسا لشعب برازيلي ينتظره مستقبل واعد. لكن بالنسبة للمسؤولين عن الرياضة في البلاد، فإنهما أولاً وأخيراً لاعبين من أصحاب البشرة السمراء . حيث لا يزال اتحاد الكرة يعاني من 'تروما ماراكانا'، وغارق في جدل حول 'بياض' لاعبيه. وفي كأس العالم عام 1958 بالسويد، كان لاعبو المنتخب البرازيلي مجبرين على الذهاب بانتظام إلى المراكز الطبية، التي كشفت عن معانتهم من سوء التغذية وحالة صحية عامة مؤسفة. وعند وصولهم إلى السويد، تم فرض إقامة جبرية على اللاعبين في غرفهم بالفندق بحيث لم يكن لديهم فرصة في الخروج إلا للتمرين أو لتناول الطعام. كما تم وضع نظامهم الغذائي وحركتهم وأفراد عائلتهم وحياتهم الجنسية تحت رقابة مشددة، وتم استبدال موظفات الفندق وعاملاته على عجل بالرجال. واستدعت اللجنة الفنية التابعة لاتحاد الكرة البرازيلي طبيباً نفسياً لاختيار اللاعبين المناسبين ذهنياً للمنافسة. وحكم عالم النفس، جواو كارفالهايس، على بيليه بأنه «طفوليًا بشكل لا لبس فيه». ويضيف: «إنه يفتقر إلى الروح القتالية اللازمة، ويفتقر إلى الشعور بالمسئولية الضروري لأي مباراة جماعية». أما جارينشا فكان الحكم عليه بأن «معدل ذكائه أقل من المتوسط، ولا ينبغي له المشاركة في مباريات تتسم بالضغط العالي بسبب افتقاره للشراسة المطلوبة».
.. هذه المفاهيم العنصرية البغيضة أجبرت فينسنتي فيولا، المدير الفني للمنتخب، على عدم البدء بهذين اللاعبين في المباريات الأولى ضد النمسا ثم إنجلترا. ولكن بعد التعادل السلبي مع الإنجليز، أقحم المدرب الثنائي المهاجم، بيليه و جارينشا، في التشكيل الأساسي في محاولة لهزيمة منتخب الاتحاد السوفيتي المخيف. وبسبب هذين اللاعبين يتحول السيليساو إلى آلة لتسجيل الأهداف. حيث كان المدافع السوفيتي بوريس كوزنيتسوف ضحية لمراوغات جارينشا التي أذهلت المتفرجين، بينما سجل بيليه هدف الفوز في ربع النهائي ضد ويلز قبل أن يوقع على ثلاثية في نصف النهائي ضد فرنسا.
كان أداؤهم هجومياً مذهلاً، بدا وكأنه انتقام إبداعي من النمط الأوروبي الصارم. وفي المباراة النهائية، يواجه البرازيليون المنتخب السويدي صاحب الأرض، يوم 29 يونيو، في استاد راسوندا في ضواحي العاصمة ستوكهولم. ومن واقع ما كتبه المؤرخون الدوليون، كانت المواجهة رمزية: «السويديون طوال القامة، وشقر ومتجانسون في كل شيئ تقريباً. أما البرازيليون فهم خليط أصغر حجماً، وأكثر استدارة، وأكثر قتامة وسوادً. القارة القديمة ضد العالم الجديد، والتصنيع المتقدم ضد تصنيع بدائي، والديمقراطية التوافقية ضد الشعبوية المحمومة».
افتتح الإسكندنافيون التسجيل في الدقيقة الرابعة، لكن فافا سرعان ما سجل هدفين تلاه بيليه الذي سجل في الدقيقة 55 بعدما راوغ آخر مدافع سويدي بكرة هوائية مررها من فوق رأسه ثم استلمها على صدره قبل أن يسدد بقدمه في المرمى. أما جارينشا، الملقب بالطائر، فقد أبهر الجماهير بقدميه المقوستين اللتان أسقطتا عمالقة الشمال، مع كل تمريرة تخرج من قدمه. وانتهى اللقاء بفوز المنتخب البرازيلي بخمسة أهداف مقابل هدفين. وبدهشة عارمة قال سيجي بارلينج، المدافع المسؤول عن مراقبة بيليه، بعد المباراة: «بعد الهدف الخامس كانت لدي رغبة حقيقية في أن أصفق لهم».
من كتاب #تاريخ شعبي لكرة_القدم
تأليف ميكائيل كوريا
ترجمه عن الفرنسية محمد عبد الفتاح السباعي
وصادر عن دار نشر 'المرايا للثقافة والفنون'