على السرير الأبيض حصلت على فرصة فريدة لأنام نوما طويلا ، قد لا يكون عميقا، لكنه طويل إلى حد الملل، وبين علب تتكرر من نفس الدواء ووجوه محدودة أراها في اليقظة، رأيت في فترات النوم الطويلة عشرات بل مئات الوجوه الذين قابلتهم أو عرفت بعضهم في حياتي ، بعضهم أحياء وبعضهم موتى، لم يكن لدى الكثير مما أقوله لمن حولي من الأحياء، لكن لسوء الحظ فقط كانت أحاديث من عادوني في نومي كلها مزعجة وتدور بشكل متكرر حول الوضع التي تعاني منه مصر الآن، وكانت كل الأحلام تبدأ وتنتهي على وقع ما يصدر من هاتفي المحمول من أصوات أحبها لممثلين في أفلام أفلام الأبيض والأسود، ومقاطع كوميدية أكسر بها وحدة المرض ومعظمها يحكي في كل منه جزء من التاريخ الاجتماعي الحديث لمصر والمصريين ..
فقرا يحتمل وليس فقرا يسبب اليأس
في المجمل كان المصريين فقراء، ولكن فقرا يحتمل وليس فقرا يسبب اليأس ويدفع الفقير لارتكاب جريمة أو حتى الانتحار، في مشهد أسمعه بين فريد الأطرش وبين اسماعيل ياسين يقول الأخير للأول، وهو يقوم معه بدور المطرب الفقير وصديقه الذي يشاركه حياة الفقر : ( بكرة تفرج ونبقي فنانين مشهوريين ويكون معنا فلوس ويتوب ربنا عليها من أكل التونة والجبنة الرومي )، وبهذه الطريقة عرفنا أن الفقر في مصر كان محتملا لدرجة أنه لا يمنع الفقير من أكل الجبنة الرومي وعلب التونة، وهى مواد غذائية أصبحت الآن من الصعوبة بمكان الحصول عليها حتى للعائلات المتوسطة، ولم يعد في وسع أى عائلة مصرية متوسط، فضلا عن العائلات الفقيرة، أن تضمن لأطفالها إفطار يوميا يتضمن بأى نسبة قطع الجبنة من أى نوع ولا طبعا الحليب ولا البيض، أما الحديث عن باقي وجبات اليوم فالمعجزة الإلهية وحدها هى التي تضمن لربة البيت في مصر في هذه الأيام أن تطبخ لأسرتها وجبة غداء يأكلها أولادها على الغداء والعشاء وما يتبقي منها قد يكفي لإفطار اليوم التالي .
غرفة نوم ابنة أم العروسة ب 120 جنيها
كنت أصحو وأنام على ما أسمعها من مشاهد تتسرب من هاتفي للراحل الكبير والفنان الذي لم يأخذه حقه حيا أو ميتا عماد حمدي وهو يضجر من مطالبة تحية كاريوكا في فيلم أم العروسة من مطالب تجهيز ابنتهم لدرجة أنه اشترى غرفة نوم للعروس ب 120 جنيه، وأغفوا وأن اسمع من الهاتف وصف مائدة الوليمة التي صنعتها أم العروسة، وهى زوجة لموظف حكومي محدود الدخل، وما عليها من لحوم وطيور وأصناف طعام لا يستطيع معظم المصريين الآن من الطبقة المتوسطة، ولا أقول الفقيرة ، شراء ربعها، وبمواصفات مصر هذا الزمان كانت أسرة أم العروسة في قاع الطبقة المتوسط، أسرة لموظف محدود الدخل وليس لتاجر أو صاحب أعيان .
عامل نظافة في مطعم أو عامل تقديم طلبات
أصحو وأنام على مقاطع إخبارية تبعث الإحباط واليأس في النفوس ووتمنى لو أن ما فيها من معلومات زائفة، ولكنها مع الأسف حتى وإن لم تملك ما تدلل به على ما فيها من معلومات زائفة، فلا نسمع في الجهة الأخرى ما يفيد زيفها، لكن الأخطر أننا نعيش في الواقع ما نشعر بوطأه علينا جميعا من غرق تحت موجات عاتية من الديون والتضخم، وتهديدات تحيط بسيادة الوطن واستقلاله من كل اتجاه استراتيجي ، وفي الداخل فقدان للأمل أمام معظم الشباب في الحصول على وظيفة يبنون بها أسرهم الخاصة، وبعض هؤلاء الشباب فضلوا الهروب للإنتحار أو الإدمان، وفي معظم الأحيان القبول بأى عمل لا يمكن إلا وصفه بأنه يهدر كل السنوات من التعليم ويهدر أمال أسرهم فيهم، فلا معنى لأن يعمل طالبا يحمل البكالوريوس أو الليسانس في مهنة عامل نظافة في مطعم أو عامل تقديم طلبات، بالرغم من شرف أى مهنة، ويحصل زميله الذي يحمل على نفس المؤهل بالوساطة على وظيفة راقية وقد يكون أقل منه كفاء سوف أننا نعيش في مأزق أخلاقي كبير .
الحمد لله لكن أنا مثل بلادي لست بخير
بين صحوي ومنامي على سرير المريض شاهدت مشاهد ملتبسة بين النوم واليقظة، مشاهد قد لا يكون لها تفسير سوى أنها من باب حديث النفس، ولكنها اشتركت في أنها ضمت مشاهد من القلق على مصير بلادي، وكان كل من اتصل بي من القليلين ليطمئن على صحتي كنت اكتب لهم ردا واحد لا يتغير ( الحمد لله لكن أنا مثل بلادي لست بخير )، وكأني أدعو كل من تفضل بالسؤال عن صحتي أن أقول له ( أدعي مع دعائك لي أن تشفي بلاد وأن تقوم وأن تشد الحيل )