اعلان

محمد مختار يكتب عن المفكر المتشرد : محمد إبراهيم مبروك .. ( ثلاثون عاما من التشرد) .. لا كرامة لنبى في وطنه ( 1 )

محمد ابراهيم مبروك
محمد ابراهيم مبروك

لا كرامة لنبي في وطنه'، قول مأثور، ويرد في روايات أخرى: 'في بلده، في قومه، في أهله، في أرضه'-، وهو قول نستخدمه عند إغفال شخصية مهمة أو تهميشها، كذلك شأن العالم أو الفنان أو العظيم الذي لا يجد في مجتمعه التقدير له حق قدره، وخاصة بين ذويه وممن حوله، حيث لا يجد احترامًا يليق به. بل تجد الغرباء عنه هم الذين يحترمونه ويُكبرونه، ويعرفون الفضل فيه، وقول لا نبي في وطنه لها من شواهد التاريخ ما يؤيدها، ولن نسرف في سرد قصص الأنبياء الذين لم يجدوا أنصار لهم إلا خارج وطنهم، وجاء في شعر المتنبي: أنا في أمّة -تداركها الله- غريب كصالح في ثمود

لحم أو دجاج أو سمك أو لحمة الرأس التي يجيد طبخها بدون أى منافس

تتداعى لدى كل هذه الأفكار وهي تتزاحم في ذهني في رأسي في كل مرة أشرف بلقاء المفكر الإسلامي الكبير محمد إبراهيم مبروك، صاحب عشرات الكتب في الفكر الإسلامي والشعر والنقد والأدب والقضايا الاجتماعية، وهو يدعوني ببساطته لطعام بسيط أو للشاى على مقهى في شارع المحطة في الجيزة، ولكني أشهد أنه في المرات التي دعاني فيها على طعام دسم كان يؤثر على نفسه الإيثار الخفي فيضع أمامي النصيب الأكبر ويصر على تطبيق مبدأ لا يتنازل عنه، وهو أننا لا نتوقف عن الطعام حتى ينتهي كل ما أمامنا حتى آخر قطعة لحم أو دجاج أو سمك أو لحمة الرأس التي يجيد طبخها بدون أى منافس، وهو نفس ما يصر عليه عندما يكون الطعام فول أو كشري أو جبنة وحلاوة !

أسطورة لطالب متفوق في دراسته تشرد من منزله لذنب لا يعرفه

في كتابه ( ثلاثون عاما من التشرد ) نقرأ سردية أسطورة لطالب متفوق في دراسته، بدأت رحلة تشرده لأسباب لا ذنب له فيها مبكرا من بعد المرحلة الثانوية ولم يشفع له تفوقه الدراسي ولا تدينه الفطري، فكان عقابه على تفوقه الأسطوري في الدراسة حتى في أصعب المواد الدراسية التي كانت معروفة في هذا الزمان، الرياضيات، أن تشرد من منزله ليكون مطلوبا منه أن يعمل ويدرس ويؤمن مأوى ينام فيه وليس في يده مدخرات ولا صنعة ولا وظيفة ولا حتى في وسعه أن يلجأ إلى أقرب المقربين، ليس ليستجدي منه المأوى والطعام، ولكن ليسأله عن سبب هذه القسوة غير المبررة وغير الإنسانية، التي تدفع بفتى للشارع فجأة ليجد نفسه مضطرا لأن يبحث عن مأوى ينام فيه فضلا عن الطعام والمضى في رحلة التعليم .

المرأة الرحيمة التي وصفت محمد إبراهيم مبروك بأنه ( فيلسوف )

في الصفحات الأولى التي التهمتها عيني التهاما وأن لا أصدق ما تقرأه عيني لفت نظري الامتنان الشديد الذي يشعر به محمد إبراهيم مبروك تجاه امرأة يصفها بأنها غير متعلمة وهى فقط أم زميل له، ويحكي محمد إبراهيم مبروك تفاصيل عما أسدته هذه المرأة الفاضلة له، ولكن ما انتبه له المؤلف وما لم يتوقعه هو ولا يتوقعه أى متابع هى أن هذه المرأة تلخص تفسير مأساة محمد إبراهيم مبروك التي سوف يعاني منها طيلة حياته، وليس في حبه العاثر فقط، وهى أن مشكلة محمد إبراهيم مبروك ليست كما يقول هؤلاء الناس الذي ينتقدونه ويحاربونه في أدق تفاصيل حياته، وانما المشكلة هي في كونه ( فيلسوف ) .

مواجهة موجة طاغية من الإلحاد تحيط به من كل مكان في هذا الوقت الحرج

وفي صفحات من الكتاب يعرض محمد إبراهيم مبروك لمحطات من تشرده وهمه الذي كان عليه أن يحمله بمفرده، وهو أن يجد مأوى ينام فيه، وبين غرف مشتركة عند أقارب أو أصدقاء أو مكان مستأجر للنوم، نشعر بأن الفتى المتشرد لا يبحث عن مجرد مأوى بل يبحث عن حب افتقده، وأمان حرمه منه أقرب المقربين، ولكن فجأة نشعر أن محمد إبراهيم مبروك يبحث عن الحقيقة، حقيقة هو يدرك في أعماقه أن لا شك فيها، ولكنه يبحث عن أدلة عقلية ومادية يستند لها في مواجهة موجة طاغية من الإلحاد كانت تحيط به من كل مكان في هذا الوقت الحرج من تاريخ مصر وتاريخ الحالة الإسلامية .

المعجزة الإنسانية التي تسقط نظريات في علم النفس الكلاسيكي

و الحقيقة أن الفتي محمد إبراهيم مبروك كما تروي الصفحات الأولى من الكتاب يكاد يكون قد فعل المعجزة الإنسانية التي تسقط نظريات في علم النفس الكلاسيكي، وهى معجزة تثبت عظمة الإنسان الذي لا يمكن وضع سلوكه ودوافعه في قوالب دراسية أو نماذج قابلة للتكرار، فالشاب الذي خرج وهو فتى من بيت أسرته وأصبح ولا يزال شريدا لا مأوى له، قفز على نظريات علم النفس الكلاسيكية وهو في هذه الظروف ليبحث عن ذاته، في الوقت الذي لا يملك فيه ثمن طعامه، ولا مأوى ينام فيه آخر النهار، وهى تكاد تكون معجزة إنسانية لأن كل علماء علم النفس يقررون بدون أى تردد أن الإنسان لا يبحث عن ذاته إلا بعد أن يشبع حاجاته الأساسية في الطعاوم وفي المأوى، ولكن فتانا هنا يبحث عن ذاته وهو بلا مأوى وبلا حتى ثمن وجبة الطعام

تتمايز الصفوف والفرق ويتصيد كل صف الأخطاء للصف المقابل

وبين الفترة العمرية التي تفصل حياة الفتى عن حياة الشاب تتأكد حالة التشرد التي يعيشها محمد إبراهيم مبروك في وقت تتشكل فيه حالة من الحراك في المجتمع المصري تتمايز فيه الصفوف والفرق ويتصيد كل صف الأخطاء للصف المقابل وتستعد كل فرقة في موقف الفرقة المنافسة، ولم نكن في حاجة لمهارة كبيرة لنقرأ ما بين سطور لم يكتبها محمد إبراهيم مبروك أنه تعرض لاختيار قاسي بين أن ينضم لفريق هو المسيطر على كل فرص الالتحاق بعالم النشر، وكان هذا الفريق في ذلك الوقت في تحالف غير معلن مع السلطة الحاكمة في ذلك الوقت، وبين أن يبقى مستقلا ليضاف إلى أعباء تشرده أعباء أخرى ليس من أبسطها أنه سيواجه في قادم الأيام حرب شرسة تستهدفه في رزقه.

حرب شرسة للفريق المسيطر على دور النشر وسط حراك سياسي وفكري

ولكن المفارقة التي سوف يعيشها محمد إبراهيم مبروك في هذه الفترة من حياته هو أنه لن يكون خصما للفريق الديني الذي كان مسيطرا على دور النشر في هذه الأيام، ولكن تكون معركته مجرد أن يعارك الدنيا للبقاء على قيد الحياة وليس في يده أى سلاح فحسب، ولكنه وبسبب تمسكه بموقف فكري فريد وجد نفسه محاربا على أكثر من جبهة ، وفي وقت كانت مصر تموج بالحراك السياسي والفكري في ذلك الوقت، وجد نفسه في صراع فكري عميق مع الاخوان والعلمانيين ، وهذا ما سوف نستكمله في مقالات قادمة .

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً