محمد مختار يكتب : مذكرات صحفي تحت التمرين ( 2 )

عدد من جريدة مصر الفتاة
عدد من جريدة مصر الفتاة

في المسافة بين جامعة القاهرة والدقي، كانت الفرصة قائمة للمشي مع زملاء في الكلية، ليس من باب الرياضة، وكنا شبابًا في ذلك الوقت لم نعرف بعد متاعب السكر، ولكن لأن مصروف كل منا من أسرته قد لا يكفي لتأمين المواصلات يوميًا مع شراء ما يحتاج إليه أي طالب في الجامعة. كنا نفترق كل حسب طريقه بعد مفارقة كوبري الجامعة. كان المناخ السياسي في هذا الوقت مليئًا بالحراك وكنا نتابع الصحف التي تصدر وتختفي بدون سابق إنذار وكان بعضها يصدر عن أحزاب، ثم تنشق الأحزاب على نفسها وتختفي الصحف التي صدرت عنها بانتظام أو بغير انتظام. وفي الوقت نفسه، تصدر صحف برخص صادرة من قبرص أو لندن، ثم تختفي بدورها. وبين ظهور واختفاء هذه الصحف، كنا ندور في فلكها، نعمل مجانًا ولا نحصل على أي مال، بل أحيانًا ننفق من مصروفنا اليومي الذي كنا نوفر منه تكاليف المواصلات لندفع ثمن مكالمات الهاتف من الأكشاك والسنترالات في هذا الوقت قبل ظهور الهواتف المحمولة وانتشارها.

مصر الفتاة .. التاريخ في مبنى متهدم حول مائدة اجتماعات متواضعة

وفي الدقي وجدت لافتة مكتوب عليها (حزب مصر الفتاة)، وكان قد صدر من جريدة الحزب لأول مرة أعداد توحي بأن ورائها صحفيين موهوبين، وهم نفسهم الذين سوف يصبحون من أشهر وأكبر الكتاب بعد ذلك في قادم الأيام. كانت اللافتة مكتوبة بطريقة بدائية والمبنى الذي يشغله مقر الحزب والجريدة مبنى شبه متهدم قرب سفارة تشيكوسلوفاكيا القديمة قبل أن تنفصل لدولتين. فوجدت نفسي بدون شعور وعلى خلاف خجلي الطبيعي أصعد على سلم المبنى وأدخل لأجد أمامي أشخاصًا يجلسون حول (طاولة) اجتماعات، وفي ركن يجلس على مكتب متواضع من عرفت بعد ذلك أنه الصحفي الكبير الأستاذ طلعت إسماعيل، قدمت له نفسي بفخر كنا نشعر به كطلبة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وتفهم الرجل غرضي من أول جملة نطقت بها، لكنه استمع مني بسعة صدر، وفي نهاية كلامي قال لي جملة هي أول درس تعلمته في المهنة، كانت الجملة واضحة تمامًا (لا تشغل نفسك بالقصص والأدب أهم ما يجب أن تتعلمه الآن هو أن تتعلم كيف تكتب الأخبار وباقي الأشكال الصحفية). في هذا اليوم عدت لمنزلي في الحسين مشيًا على الأقدام، ولكن لم أستطع النوم من الفرحة، فرحة شاب يافع لم يتخطَّ الثمانية عشر عامًا من عمره، وهو يشعر لأول مرة أنه على أعتاب عالم عاش يحلم به، وحتى وإن كانت الفرصة متواضعة وفي صحيفة لن يكتب لها الاستمرار، كما حدث فيما بعد، لكن ظنني أن فرحتي بهذه الفرصة في ذلك الوقت كانت بسبب عراقة اسم الصحيفة والحزب، حزب مصر الفتاة، وكانت صحيفة الحزب تصدر وعلى لافتة الترويسة صورة لمؤسس حزب مصر الفتاة أحمد حسين على اليمين وعلى اليسار صورة جمال عبد الناصر، وهى توليفة سياسية كنت في ذلك الوقت لا أعرف أنها شكل من أشكال الدجل السياسي ولكن فهمت هذا في قادم الأيام

.

حزب مصر الفتاة وتاريخ الصحافة والدكتور خليل صابات

وحزب مصر الفتاة درسنا صحافته ضمن مادة تاريخ الصحافة للأستاذ الدكتور خليل صابات، والأستاذ الدكتور خليل صابات لمن لا يعرفه من شباب الصحفيين هو قامة وعلامة في التاريخ الأكاديمي للصحافة العربية، وهو من مواليد 3/6/1919 بالقاهرة. حاصل على ليسانس آداب قسم اللغة الفرنسية عام 1931، ودبلوم معهد التحرير والترجمة والصحافة، ودبلوم معهد التربية العالي، ودكتوراه في الآداب من معهد التحرير والترجمة والصحافة بجامعة القاهرة. عمل مدرسًا للغة الفرنسية بالمدارس الثانوية الحكومية منذ عام 1942 وحتى عام 1950م. عمل مدرسًا مساعدًا بمعهد التحرير والترجمة والصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1954 وحتى عام 1993م. تدرج بوظائف هيئة التدريس حتى وصل إلى درجة أستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة، ثم اختير عضوًا بالمجلس الأعلى للصحافة، وعضوًا بالمجالس القومية المتخصصة شعبة الإعلام، وعضوًا بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وعضوًا للجنة الاقتصادية باتحاد الإذاعة والتليفزيون. تخرج على يديه المئات من الإعلاميين والصحفيين المصريين والعرب، ومن أشهر كتبه حول تاريخ الصحافة كتاب 'تاريخ الطباعة في الشرق العربي'، 2001م، وكتابه الموسوعي 'وسائل الاتصال نشأتها وتطورها'، الذي صدر في عشرات الطبعات، وكان الراحل يوزعه على طلاب كلية الإعلام مجانًا بدون مقابل، ولم يكن يتكسب أبدًا من بيع كتبه التي تعتبر من أهم مراجع تاريخ الصحافة والإعلام في العالم العربي.  

صحيفة مصر الفتاة صحيفة مصر الفتاة

اجتماع التحرير العاصف وعضوية نقابة الصحفيين

وأذكر أول يوم لاجتماع التحرير كان يوم الاثنين، وكان اختيار يوم اجتماع التحرير هو الدرس الثاني الهام الذي تعلمته في أول تجربة التحقت بها، وهي أن اجتماع التحرير يجب أن يكون في نفس يوم صدور الجريدة إن كانت أسبوعية، وفي صباح اليوم التالي للصدور إن كانت يومية، أما الدرس الثالث فهو أن اجتماع التحرير هو الوقت والمكان الذي يجب أن نتحمل فيه أقسى النقد لما نشرناه في العدد الماضي، وأن نعرض فيه أفكارنا للعدد القادم. وفي المقر المتهدم في حزب مصر الفتاة كان حظي أن ألتقي بأساتذة كبار، كانوا شبابًا في هذه الفترة يعملون مقابل مبالغ زهيدة على أمل أن تلحقهم صحيفة الحزب بعضوية نقابة الصحفيين. وهنا عرفت لأول مرة معاناة الصحفيين في مصر من أجل الالتحاق بنقابة الصحفيين. كانت عقود الصحفيين في ذلك الوقت لا يزيد راتبها عن 65 جنيها، وكان كل صحفي يقبل بعقد إذعان من أجل عضوية النقابة، ومع الأسف استمرت هذه الظاهرة حتي الان في معظم الصحف، وهنا قابلت هناك الأستاذ والصحفي الكبير عادل السنهوري وكان يشغل موقع رئيس قسم الأخبار، والأستاذ الصحفي الكبير عماد الدين حسين وكان يشغل رئيس قسم التحقيقات، وقابلت الزميل والصديق خالد صلاح الذي عرفت أنه دفعتي في الكلية مع أنه يكبر دفعتي ليس فقط بأعوام بل بخبرات في الحياة والعمل السياسي وتاريخه معروفة، لكنه أصبح بعد ذلك علامة فارقة في تاريخ التحول من الصحافة الورقية التقليدية إلى الصحافة الورقية. وكان الأستاذ والصحفي الكبير طلعت إسماعيل مديرًا للتحرير، أما الحزب ورئيس التحرير فسوف يكون لي معهما وقفة مناسبة !

WhatsApp
Telegram