خلال فترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك استخدم وزيره للإعلام صفوت الشريف حيلة حسنة ساهمت في تنوع المشهد الصحفي في الشارع المصري وإتاحت مساحة للتنوع والتعبير عن الرأى ولو شكليًا، وفي نفس الوقت سمحت هذه الحيلة بطباعة الصحف في مصر من خلال رخص صورية تصدر من الخارج، وهي رخص لم يكن لها من القانون أي سند ولكن اقتضت موائمات كثيرة أن تستخدم الدولة في ذلك الوقت هذه الرخص لأغراض شرحها، ومعظم هذه الصحف كانت تصدر بتراخيص من قبرص أو لندن وحتى من المنطقة الحرة في الأردن، ولكن كل هذه الإصدارات عرفت في هذا الوقت بشكل عام باسم ' الصحف القبرصية ' .
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن صفحة مطوية في تاريخ الصحافة المصرية : الصحف القبرصية وأخواتها !
وعرفت الصحف التي كانت تصدر برخص من قبرص باسم الصحف القبرصية، وكانت هذه الصحف تصدر في عصر مبارك برخص من خارج مصر كان معظمها يصدر من قبرص، ونظريًا تصدر هذه الصحف من خلال إجراءات تبدأ بشراء ورقة مختومة بختم وزارة الداخلية القبرصية، وفي الحقيقة لا يوجد أى دليل على أن هذه الأوراق التي كان بعض السماسرة والمحامون يقومون ببيعها هى أوراق أو رخص رسمية ، ولكن في كل الأحوال كانت الإجراءات تتم من خلال طلبات تقدم لمكتب ملحق بوزارة الإعلام في زمن وزارة صفوت الشريف وبعد موافقات تمر عن طريق التوصية أو الوساطة تصدر موافقة طباعة داخل مصر لهذه الصحف، وبمجرد صدور موافقة الطباعة لا يكون هناك فارق تقريبا بين هذه الصحف وبين الصحف التي تصدر برخص مصري عن أحزاب أو جمعيات، ووسط الالاف من هذه الإصدارات التي صدرت واختفت بدون مناسبة، وأحيانا بدون داع، صدرت مئات الصحف بدون رخص من أى نوع، ولكن في كل الأحوال ارتبط صدور مثل هذه الصحف أو توقفها عن الصدور بقدرة القائمين عليها على جلب الإعلانات، ولم يكن هناك أى غرض من صدور هذه الصحف إلا فقط الحصول على الإعلانات .
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن صفحة مطوية في تاريخ الصحافة المصرية : الصحف القبرصية وأخواتها !
فقد كانت الفترة من 1987 إلى 2011 من أكثر الفترات التي شهدت إصدارات صحفية في مصر، ولكن هذه الإصدارات لم تكن تخضع للقوانين العادية التي تنظم عملية صدور الصحف المصرية. بل كانت تتم عبر ما عُرف بـ'الباب الخلفي'، أي من خلال الصحف القبرصية. وكانت هذه الصحف تصدر بترخيص من وزارة الداخلية القبرصية، وذلك بمجرد إخطار شركة يقوم به وسطاء مقابل تكلفة زهيدة تراوحت بين 500 جنيه مصري إلى 5000 جنيه في أحسن الحالات، وكانت هذه المبالغ لها قيمة في ذلك الوقت. بل إن بعض هؤلاء السماسرة كانوا يقدمون تراخيص الصحف مجانًا، إما مجاملةً أو هديةً في بعض الحالات.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن صفحة مطوية في تاريخ الصحافة المصرية : الصحف القبرصية وأخواتها !
وحتى نكون منصفين، فإن القانون في ذلك الوقت هو الذي فتح الباب لمثل هذه التراخيص القبرصية لإصدار الصحف. وعرفت هذه الظاهرة في ذلك الوقت بظاهرة 'الصحف القبرصية'، وأحيانًا 'الصحف اللندنية'. وسبب التسمية يرجع إلى أن تراخيص الحصول على إصدار وطبع هذه الصحف تأتي من قبرص ولندن، عبر سماسرة يعملون في تسويق وبيع هذه التراخيص في مصر. فيستطيع المرء أن يحصل على رخصة بإصدار صحيفة من قبرص أو لندن، بمبلغ لا يتجاوز المائتي دولار. وهي حيلة لجأ إليها البعض، للتغلب على سياسة تقييد حرية إصدار الصحف للأفراد، حيث تتعامل هذه المطبوعات وفق قانون المطبوعات الأجنبية.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن صفحة مطوية في تاريخ الصحافة المصرية : الصحف القبرصية وأخواتها !
وحتى نكون منصفين، فإن ظاهرة الصحافة القبرصية، أو الصحف التي كانت تصدر من قبرص، لم تكن ظاهرة عشوائية أو ناشئة من فراغ. بل إن القانون المنظم للبيئة الإعلامية للصحف الورقية في تلك الفترة كان يتضمن بابًا خلفيًا مفتوحًا على مصراعيه لظهور هذه الصحف. وهذا الباب الخلفي تمثل في بعض نصوص قانون سلطة الصحافة رقم 148 لسنة 1980، ليعطي الحق للأشخاص الاعتبارية في إصدار الصحف، مما سمح بإصدار تراخيص من الخارج لإصدار صحف. وظهرت بذلك صحف تفتقر في مجملها إلى الإمكانيات المادية والبشرية، وربما الصحفية والمهنية.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن صفحة مطوية في تاريخ الصحافة المصرية : الصحف القبرصية وأخواتها !
وبدون أي مبالغة، فإن عدد الصحف القبرصية التي صدرت في هذه الفترة تجاوز الآلاف. ويمكننا القول إن هذا العدد وصل إلى عشرات الآلاف إذا أخذنا في الاعتبار الصحف التي كانت تصدر لمجرد تحصيل فواتير إعلانات يتم الحصول عليها عن طريق العلاقات الشخصية أو مجموعات الفساد باختلافها، والصحف التي كانت تصدر فقط في أيام الأعياد القومية للمحافظات أو صدور ملاحق إعلانية للوزرات. وكان الموظفون القائمون على إدارات العلاقات العامة في المحافظات أو الوزرات يقومون بالتنسيق والاتفاق مع بعض سماسرة الإعلانات لإصدار عدد وحيد من صحيفة فقط لتحصيل فواتير تساوي كل الميزانية المخصصة للإعلانات في هذه المناسبات، مع فرض نشر تهاني للمحافظين والوزراء على المتعاملين والمستفيدين من هذه الجهات.
وبطبيعة الحال، فإن القائمين على إصدار هذه الصحف لم يكن لمعظمهم علاقة بالعمل الصحفي إلا ما يتعلق بجلب الإعلانات وتحصيل ثمنها. وكان من الطبيعي أيضًا ألا يعطي القائمون على هذه الصحف أي اهتمام بقوانين الدول التي تمنحهم هذه التراخيص، لدرجة أنني خيل إلي في بعض الحالات أن كل هذه التراخيص غير حقيقية، وإن لم تكن مزورة، وأن الجهات في مصر وفي الدولة التي تصدر هذه التراخيص كانت تسمح بتمرير طباعة وتوزيع هذه الصحف لأسباب مختلفة، قد يكون من بينها خلق مناخ من التنفيس والتعبير عن الرأي في هذه الفترة.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن صفحة مطوية في تاريخ الصحافة المصرية : الصحف القبرصية وأخواتها !
أما ما أدهشني في هذه الفترة فهو ما حدث عندما خاطبت وزارة الداخلية القبرصية، التي تصدر عنها نظريًا هذه التراخيص، وزارة الإعلام المصرية، وكان ذلك في زمن وزير الإعلام الراحل صفوت الشريف، بوقف طباعة هذه الصحف لأنها ببساطة لم تكن تلتزم بتوريد الضرائب المقررة على الإعلانات التي كانت تظهر في النسخ المطبوعة لهذه الصحف. وكانت المفاجأة أن صفوت الشريف، الذي كان مطلق اليد والنفوذ في مصر خلال هذه الفترة، قرر أن تدفع وزارة الإعلام إجمالي قيمة الضرائب عن كل هذه الصحف.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن صفحة مطوية في تاريخ الصحافة المصرية : الصحف القبرصية وأخواتها !
لكن بعد هذا الموقف، قرر صفوت الشريف أن يضع قليلاً من الملح في العيون، وخاطب وزارة الداخلية التي كانت تنظم تراخيص الطباعة لهذه الصحف داخل مصر، من خلال اشتراط أن يكون لكل صحيفة رئيس تحرير مقيد في جداول نقابة الصحفيين. وهو ما تلقفته نقابة الصحفيين لتوفر وظائف للمئات، أو حتى الآلاف، من أعضائها الذين كانوا يعانون مثل غيرهم من تدني الدخل. فوضعت نقابة الصحفيين شرطًا نقلته بالحرف من قوانين وزارة الصحة المنظمة لعمل الصيدليات، وذلك من خلال اشتراط ألا يزيد عدد الصحف التي يرأس تحريرها نفس الشخص عن صحيفتين اثنتين فقط، تمامًا كما كانت وزارة الصحة تشترط ألا يزيد عدد الصيدليات التي يتولي إدارتها أي صيدلي عن صيدليتين اثنتين فقط. وهو ما فتح الباب لتوظيف آلاف الصحفيين كرؤساء تحرير من الباطن لهذه الصحف، وكان كل ما يقومون به فقط هو الحصول على راتب شهري من ملاك الصحف القبرصية مقابل وجود أسمائهم في أوراق التراخيص .