يشهد العالم المعاصر سباقًا محمومًا نحو تطوير التعليم العالي بوصفه المحرك الرئيس للتنمية المستدامة والابتكار. وفي خضم هذا السباق، يبرز كتاب 'إدارة الجودة الشاملة في التعليم العالي' للدكتورة سميرة المبروك العيادي البسكري كإضافة نوعية في المكتبة العربية، حيث يقدم رؤية متكاملة تستند إلى الأسس النظرية الرصينة، لكنها في الوقت ذاته تنطلق إلى الواقع العملي بكل ما يحمله من تحديات وضغوط.
منذ الصفحات الأولى، تدعو المؤلفة القارئ للتفكر في حقيقة أساسية: أن جودة التعليم لم تعد ترفًا فكريًا أو خيارًا مؤجلًا، بل هي ضرورة وجودية لأي جامعة تطمح للريادة. فالمؤسسات التعليمية ليست مجرد مبانٍ أو قاعات محاضرات، وإنما فضاءات لصناعة العقول وإعداد القيادات وصياغة وعي المجتمعات. إن الجامعات الناجحة هي التي تتحول إلى مصانع للأمل، ومنارات للعلم، ومحركات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ما يميز هذا الكتاب هو وضوحه في تشخيص المشكلات التي تعاني منها أنظمة التعليم العالي في العالم العربي، وفي ليبيا على وجه الخصوص، حيث يشير إلى الضغوط المتزايدة من أسواق العمل، والارتفاع المستمر في أعداد الطلاب، فضلًا عن التأثيرات الجارفة للتكنولوجيا والاتصال الرقمي. هذه التحديات لا يمكن مواجهتها بسياسات تقليدية أو بخطط إدارية قصيرة الأجل، وإنما ببرامج إصلاحية تتبنى معايير الجودة والاعتماد الأكاديمي كنهج مستمر لا يعرف التوقف.
تذهب المؤلفة أبعد من مجرد التنظير لمفهوم الجودة، فتقدم مجموعة من الحلول العملية التي تستند إلى التجارب الدولية الناجحة. فهي تؤكد على ضرورة تحديث المناهج وربطها بمتطلبات السوق، وتدريب أعضاء هيئة التدريس ليكونوا قادة في العملية التعليمية لا مجرد ناقلين للمعلومات، وتهيئة بيئة تعليمية تشجع على الإبداع والابتكار. كما تولي أهمية خاصة للبحث العلمي التطبيقي بوصفه العمود الفقري للتنمية، مؤكدة أن الجامعة لا ينبغي أن تنعزل عن مجتمعها، بل عليها أن تكون في صلب قضاياه وتحدياته.
ولعل من أبرز ما يطرحه الكتاب هو التحذير من اختزال مفهوم الجودة في مجرد استيفاء أوراق وتقارير روتينية، فالجودة الحقيقية – كما تذكر المؤلفة – هي ثقافة مؤسسية وسلوك يومي ينعكس على كل تفاصيل العمل الجامعي، من قاعة الدرس إلى مكتب الباحث، ومن الإدارة المركزية إلى أنشطة الطلاب.
لغة الكتاب مزيج بين العمق الأكاديمي والوضوح المباشر، وهو ما يجعله جاذبًا لشرائح متعددة: الباحثون وصانعو السياسات سيجدون فيه مرجعًا غنيًا بالأفكار والرؤى، وأعضاء هيئة التدريس والطلاب سيقرؤون فيه دعوة صادقة للتغيير والتحفيز. وبذلك يصبح الكتاب أداة للنقاش المجتمعي حول مستقبل التعليم الجامعي، لا مجرد دراسة متخصصة محصورة في رفوف المكتبات.
في الحقيقة، يشكل هذا العمل خارطة طريق تدعو الجامعات العربية إلى تجاوز حدود التقليد والانغلاق، والانفتاح على التجارب العالمية مع الحفاظ على خصوصيتها الثقافية والاجتماعية. فالتعليم العالي لا يمكن أن يظل أسير البيروقراطية أو التقاليد الجامدة، بل لا بد أن يتحول إلى منظومة مرنة قادرة على الاستجابة للتغيرات المتسارعة في الاقتصاد والمعرفة والتكنولوجيا.
الدكتورة سميرة البسكري
إن القيمة الكبرى لهذا الكتاب تكمن في كونه ليس مجرد تشخيص للمشكلات، بل هو دعوة إلى العمل، دعوة إلى أن نعيد التفكير في دور الجامعة ليس فقط كمؤسسة تعليمية، بل كفاعل أساسي في عملية التنمية الوطنية. وإذا كنا نتحدث اليوم عن اقتصاد المعرفة والمجتمع الرقمي والتنمية المستدامة، فإن نقطة الانطلاق الحقيقية هي جامعة ذات جودة عالية، جامعة تُخرّج عقولا قادرة على المنافسة عالميًا، وفي الوقت ذاته منتمية لقضايا مجتمعها المحلي.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن كتاب 'إدارة الجودة الشاملة في التعليم العالي' للدكتورة سميرة المبروك العيادي البسكري يمثل صوتًا جادًا وملتزمًا بضرورة الإصلاح الجامعي. إنه يفتح الباب أمام حوار واسع حول مستقبل التعليم العالي في منطقتنا، ويضع أمامنا سؤالًا محوريًا: هل نحن مستعدون للتحول من جامعات تُخرّج أعدادًا إلى جامعات تصنع جودة ومعرفة وقدرة على التغيير؟