لم تكن الأسطورة في مصر القديمة حكاية رمزية للتسلية، بل نظامًا معرفيًا متكاملًا يشرح بنية الكون، وعلاقة الإنسان بالقوة والعدل، وبالذكورة والأنوثة بوصفهما طاقتين كونيّتين فاعلتين. ومن خلال الأساطير الكبرى، وعلى رأسها ملحمة إيزيس وأوزيريس وسوتخ وحورس، قدّم المصري القديم تصورًا عميقًا للتوازن والصراع والبقاء، بعيدًا عن التقسيمات السطحية لأدوار الرجال والنساء كما تُطرح في الخطاب المعاصر.
أولًا: أسطورة إيزيس وأوزيريس كنموذج كوني للعدل والصراع
تشكل قصة إيزيس وأوزيريس وسوتخ وحورس البنية الأساسية للفكر الكوني والأخلاقي في مصر القديمة. فأوزيريس ليس مجرد ملك قُتل، بل تجسيد لفكرة العدل الأبدي والقانون الكوني. موته وتقطيع جسده لا يمثلان نهاية، بل تحوّلًا جوهريًا؛ إذ يصبح الجسد الموزع على أرض مصر رمزًا للخصوبة واستمرار الحياة، بينما ينتقل أوزيريس إلى عالم ما بعد الموت بوصفه قاضي يوم العدالة الإلهية، يوم ردّ المظالم ويوم القيامة.
إيزيس، في المقابل، لا تُختزل في صورة الزوجة الحزينة، بل تظهر كقوة معرفية وتشريعية. فهي التي تجمع الجسد، وتعيد إحياء المبدأ، وتورّث القانون لابنها. تمثل إيزيس الأنوثة العارفة، القادرة على تحويل الفقد إلى نظام، والفوضى إلى معنى. دورها ليس عاطفيًا فحسب، بل قانوني وتعليمي. فهي استمرار الحياة من خلال ابنها حورس، ابن أوزيريس، ولم تنسَ الظلم الذي وقع على زوجها، ولم تتنازل عن حق ابنها بوصفه الملك الشرعي، بل علّمته ودعمته لاسترداد ما سُلب.
أما سوتخ، فلا يُقدَّم بوصفه شرًا مطلقًا، بل كقوة صراع وبقاء. إنه طاقة العنف الخام، وربّ الصحراء، والتحدي الذي لا يمكن تجاهله. وجوده ضروري داخل المنظومة، لكنه يجب أن يُهزم أو يُقيَّد حتى يستقيم النظام. نفيه إلى الصحراء بعد المحاكمة يعكس فكرة إخراج الفوضى من المركز لا إنكارها أو محوها.
حورس هو نتاج هذا الصراع. رحلته ليست انتقامًا شخصيًا، بل استعادة للشرعية. فقدانه لعينه ثم استعادته لها يرمزان إلى اكتساب البصيرة عبر الألم. وكان كل ملك مصري قديم يُنظر إليه بوصفه تجسيدًا حيًا لحورس المنتصر، أي أن السلطة السياسية لا تُشرعن إلا إذا اجتازت اختبار الصراع والعدل.
ثانيًا: الأنوثة والذكورة كمبادئ كونية لا كأدوار اجتماعية
في الفكر المصري القديم، لا تُفهم الذكورة والأنوثة بوصفهما صفات بيولوجية أو أدوارًا اجتماعية جامدة، بل باعتبارهما طاقتين كونيّتين تتحركان داخل الإنسان والكون معًا.
تمثل الأنوثة طاقة التعدد والمرونة والاحتواء والاستمرار. إنها طاقة البقاء والرعاية والجمال وإدارة الحياة اليومية. وهي ليست طاقة ضعف، بل طاقة معقّدة، قادرة على التكيّف والمناورة، كما يظهر في نموذج نفتيس، التي تجسّد الأنوثة المقيدة داخل البيت، والقادرة على استخدام الذكاء والدهاء كوسائل للبقاء في ظروف غير عادلة.
أما الذكورة، فتمثل طاقة الفعل والحسم ووضع الحدود، والاستعداد للتضحية من أجل فكرة أو مبدأ. والقدرة على الموت من أجل فكرة تُعد في هذا السياق ذروة التعبير عن الذكورة التقليدية، في مقابل تركيز الأنوثة على الاستمرار وحماية الحياة.
كلا المبدأين موجودان على طيف واحد داخل كل إنسان، رجلًا كان أو امرأة، كما هما حاضران في بنية الكون نفسه. وهما يتكاملان ولا يتنافسان، وأي اختلال في التوازن بينهما يؤدي حتمًا إلى العنف أو الانهيار.
ثالثًا: الثالوثات الإلهية كنماذج معرفية
تقدّم الثالوثات الإلهية في مصر القديمة نماذج مركبة لفهم التحولات الإنسانية والروحية:
1. بتاح – سخمت – نفرتوم
بتاح هو ربّ الخلق والإبداع عبر الفكر والصناعة والفن المقدس. سخمت تمثل الابتلاء والاختبار بوصفهما شرطًا للتطهير. أما نفرتوم، ابن بتاح وسخمت، فيجسّد نتيجة تجاوز الألم: الشفاء والجمال والعطر. الرسالة هنا واضحة: لا جمال دون اختبار، ولا شفاء دون مواجهة.
2. تحوت – ماعت – سشات
تحوت يرمز إلى العقل والوحي والقلم، وماعت تمثل النظام الكوني والعدل واستقامة القلب، بينما تجسّد سشات توثيق المعرفة وتراكمها. في هذا الثالوث، تُربط المعرفة بالأخلاق، وتُربط الأخلاق بالذاكرة والتاريخ، لا بالشعارات المجردة.
3. آمون – موت – خنسو
آمون يرمز إلى الجوهر الإلهي غير المتجلي، إلى القوة الكامنة خلف الوجود. تمثل موت، بوصفها الزوجة والربة، الموت الرمزي، أي موت الأنا كشرط لولادة الروح. يرمز زواج آمون وموت إلى اتصال الإنسان، في لحظة ترقّيه وتجليه، بالأنوار الإلهية، في إشارات صوفية عميقة. ثم يولد خنسو، القمر، رمز المشاعر الدفينة والدورات النفسية التي لا تفارق الإنسان في مسار الترقي الروحي. فمهما بلغ المقام، تظل المشاعر والتقلّبات النفسية حاضرة بوصفها جزءًا من تعريف الإنسان، الكائن الذي يمتزج فيه المادي بالروحي.
يشير هذا الثالوث إلى التحولات الداخلية للإنسان، وصراعه مع نوازع النفس، ومحاولته تجاوز مناطق الضعف والعوائق النفسية التي تعوق وصوله إلى أقصى درجات الترقي.
وعلى ذلك تكشف الأسطورة المصرية القديمة عن رؤية فلسفية بالغة النضج للعلاقة بين الذكورة والأنوثة، لا بوصفهما صراعًا بين جنسَين، بل بوصفهما معادلة كونية للتوازن والاستمرار. ففي هذا التصور، لا تقوم الحياة على الهيمنة أو الإقصاء، بل على الاعتراف بالدور الوظيفي والطاقي لكل مبدأ داخل الكلّ الأكبر.
وتضعنا هذه الرؤية في مواجهة نقدية مع الحداثة، التي كثيرًا ما اختزلت الذكورة والأنوثة في صراعات اجتماعية سطحية، مفصولة عن جذورها الكونية والأخلاقية. إن استعادة هذا الفهم المصري القديم لا تعني العودة إلى الماضي، بل تعني إعادة التفكير في الحاضر، والسؤال عمّا إذا كان فقدان التوازن بين هذه الطاقات هو أحد أسباب أزمات الإنسان المعاصر، على مستوى الفرد والمجتمع معًا.
في النهاية، لا تقدّم الأسطورة المصرية إجابات جاهزة، بل تطرح نموذجًا معرفيًا مفتوحًا: الإنسان ككائن يعيش داخل صراع دائم، لا يُحلّ بالقمع ولا بالإنكار، بل بالوعي، والعدل، وتحقيق التوازن بين قوى الحياة والموت، الفعل والاستمرار، الذكورة والأنوثة.