أحزنني جدًا - بعد أن قرأت برنامج معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ51 والتي انتهت فعالياته مؤخرًا، وشهد إقبالا كبيرًا من الجمهور المصري والعربي - عدم استخدام هذا الاحتفال الثقافي الكبير للترويج للثقافة النوبية وإبراز النوبة كجزء ثقافي أصيل داخل الدولة المصرية بتراثها تكمل وتتلاحم مع غيرها لتشكيل نسيج الثقافة المصرية عامة، وإثراء التعددية الثقافية؛ لا سيما أن عنوان المعرض "مصر أفريقيا.. ثقافة التنوع"!، واختيار أسوان عاصمة للشباب الأفريقي في عام 2019، الذي كان يدل على الرؤية الشاملة لهذا الارتباط، أو بالمعنى الذي قاله أمين الخولي "الوحدة في التنوع، والتنوع في الوحدة".
ربما تجدر الإشارة في البداية كي يصل المغزى الذي أريد إيصاله هو إيراد تصريح قاله عالم المصريات الدكتور أحمد صالح ويحمل دلالة قوية "أن بوابة مصر إلى أفريقيا عبر العصور، هي النوبة". نعم يحتاج المعرض لندوات عديدة بل وآلاف الساعات للحديث عن مختلف الثقافات والرواد في الثقافة المصرية؛ ولكن كان على الدكتور هيثم الحاج علي أن يكثف من الوجود كفرصة ليس إلا، لخدمة الباحثين في النوبة بأقسام علم الاجتماع والتاريخ والفنون من ناحية، وأن النوبة كانت خصيصًا في هذا المعرض يجب أن تكون حاضرة؛ لأنها المفتاح الجنوبي لأفريقيا وعاصمة ثقافة لها، ولا يخفي على أحد التشابه الجلي بين الثقافتين الأفريقية والنوبية من عادات وتقاليد نظرًا لأمور عديدة ففي السودان وغيرها من الدول الأفريقية يوجد العديد من النوبيين والتقاء اللغة النوبية ببعض اللغات الأفريقية في بعض أشكالها ومفرداتها ومن المعروف أن النوبيين من الشعوب التي تألفت منها المملكة الأثيوبية القديمة. وكثير من الأمور التي تدل على أصالتهم وارتباطهم بأفريقيا من ناحية أخرى.
وسعدت بأن البرنامج أعد ندوة لرائد الرواية النوبية محمد خليل قاسم والحديث عن روايته الشمندورة ولكن دعنا نسأل ألا يستحق إدريس علي التي ترجمت رواياته إلى أكثر من لغة أجنبية مثل دنقلة وغيرها من وجوده على موائد المناقشات الإبداعية، وأين حجاج آدول وحسن نور ويحيى مختار من اللقاءات وموائد السرد أليس هذا إثراء وتذكيرًا للأجيال الحالية بأجيال يحملون فكرا وخبرات ربما يضيع بعضها بعدهم وخاصة إذا كانوا يشكلون تيارًَا له خصوصية اسمه "الأدب النوبي".
قول على هامش
أذكر موقفًا عندما أردت البدء في كتابة رسالة الماجتسير فطلب مني أستاذي الدكتور سيد بحراوي - رحمه الله - أن يكون ضمن الرسالة حوارات مع الأدباء - موضوع الدراسة - وأن أقابل الدكتور رفعت السعيد وصنع إبراهيم فتعجبت من سبب لقائهما فأخبرني بأنهما كانا مع الروائي النوبي محمد خليل قاسم في المعتقل ويعرفون قصصًا كثيرة عنه وعن حياته، هكذا أراد خلق التواصل ليس على مستوى باحث بل أراد ترك وثيقة للأجيال القادمة، وأتمنى أن تعوض وزارة الثقافة هذا في ندوات ولقاءات مقبلة حتى لا نفتح أبوابا للتساؤل لماذا لا نكرم روادنا إلا بعد الموت، وكل الأدباء النوبيين - نتمنى لهم العمر المديد - بلغوا من الكبر عتيا، هل مثلنا ينطبق على ما قاله محمود درويش أثناء تكريمه قبل وفاته بأشهر: "ليس من المألوف أن يكرم الأحياء".
في الفترة الأخيرة انتشرت كتابات - شعرية - وصور لكتب بعناوين مبتذلة سخر منها رواد مواقع التواصل الاجتماعي لما تحمله من جمل وتعبيرات بعيدة عن الأدب مشيرين إلى أنها موجودة في معرض الكتاب، ومن وجهة نظري أرى أن قمة الأمانة والتوثيق في الفترة الحالية هي انتشار مثل هذه الكتابات، فهؤلاء الكتاب لا يمثلون أنفسهم بل يمثلون ثقافة مجتمع ينتمون إليه في فترة ما، انطلاقا من أن الأدب انعكاس للواقع والواقع كامن في الأدب؛ ولذلك إذا حاولتم فهم أي مجتمع لا تعيشون فيه ولا تعرفون ذوقه الجمالي فعليكم بقراءة أدبه فهو خير دليل عما وصل إليه هذا المجتمع.. فيكتور هوجو أديب الثورة الفرنسية، وتولستوي مرآة الثورة الروسية، ونجيب محفوظ والأبنودي وأحمد فؤاد نجم وأحمد خالد توفيق وغيرهم كانوا انعكاسًا لفترات تاريخية وأظهروا تناقضات المجتمع وأثروا الفكر بتوجهات شتى، وبالتالي هؤلاء الكتاب يعكسون ما نعيشه في الفترة الآنية؛ ليس هذا واقعنا بشكل عام؛ ولكن مجرد ظهورهم ينبئ عن فئة موجودة بالفعل لها انتشارها وذوقها الجمالي وستكون محل دراسة فيما بعد.
للتواصل مع الكاتب:[email protected]