حسن حماد: رجال الدين أصبحوا سُلطة موازية لـ"الدولة".. الشعراوي ليس "نبيا".. و"أهل السنة" بداية الإسلام السياسي (حوار - الجزء الأول)

♦♦ أرفض تقديس الشخصيات.. عقلية رجال الدين 'قمعية وإقصائية'.. ووصايتهم على المجتمع بداية 'الكهنوت'

♦♦ عمرو خالد من أسباب تفشي الخرافة.. حكاياته تصيب العقل بـ'الشلل'.. و'لعبة التماهي' تحول المشاهدين إلى أطفال

♦♦ غالبية أساتذة الفلسفة 'متشددون'.. 'العقل الجمعي' ارتد إلى مرحلة السحر.. والتربة مهيئة لإعادة الخطاب العنيف

♦♦ المشايخ يخافون من الفلسفة لأنها 'تربكهم'.. تغول الدين على العلم أصاب الحياة بـ'الجمود'.. ونشر 'التفاهة'

الدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفةالدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفة

يُعد الدكتور حسن حماد، أستاذ الفلسفة وعلم الجمال، العميد الأسبق لكلية الآداب جامعة الزقازيق، أحد أهم الفلاسفة في عصرنا الراهن، فهو صاحب منهج فلسفي مستقل يتضح بجلاء في محاضراته وندواته وبين صفحات عشرات المؤلفات التي أضافها للمكتبة العربية والعالمية منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى الآن كان آخرها كتابه الذي احتفل بصدوره منذ أيام: 'هربرت ماركيوز.. فيلسوف النفي والتحرر'.

يتميز الدكتور حسن حماد، بأنه أحد الفلاسفة القلائل الذين استطاعوا تفكيك الذهنية التكفيرية وتحليل سيكولوجية عناصر الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية، ولم يكتفي بهذا بل إنه وضع حلولًا واقعيةً لمجابهة هؤلاء الموتورين فكريًا، إضافة إلى أنه صاحب مساهمات فاعلة في حقل إصلاح الخطاب الديني.

يتسم هذا الفيلسوف، بالشجاعة والنبل في التصدي بـ'الفكر والكلمة' لمحاولات توغل وهيمنة رجال الدين على الشأن العام؛ فهو يرفض الوصاية الدينية على المجتمع، ويقف ضد الكهنوت بالكلية، ويمقت التقديس سواء منه ما كان متعلقًا بالأحداث أو الأماكن أو الشخصيات. وفي الحوار الذي أجراه معه 'أهل مصر'، كان الدكتور حسن حماد، صريحًا كعادته، حيث تناولنا الكثير من القضايا والمسائل الشائكة.

أقرأ أيضًا: الشيخ أسامة إبراهيم: الأزهر يحتاج إلى إدارة شابة.. وثقافة الاعتزال لا تصلح.. والتجديد لا يعني هدم ثوابت الإسلام (حوار ـ الجزء الأول)

في بداية حوارنا قدمنا له التهنئة على صدور كتابه الأخير: 'هربرت ماركيوز.. فيلسوف النفي والتحرر'، وعن السبب وراء اخيتاره لهذا الفيلسوف الألماني الذي عاش ما بين عامي 1898 و1979، يقول الدكتور حسن حماد: 'إن ماركيوز فيلسوف يقع علي الحدود بين الماركسية والوجودية والفرويدية، وقد استوعب التراث الغربي متمثلًا في الماركسية تلك الفلسفة التي تسعي لتغيير العالم، والفرويدية التي هي من أهم نظريات التحليل النفسي وعلم النفس المعاصرة. وهو تقريبًا استوعب كل تاريخ الفلسفة وخاصة: المادية ممثلة في هيجل وماركس، والتحليلية النفسية ممثلة في فرويد، إضافة إلى مؤثرات من الوجودية وتيارات فلسفية أخرى'.

يرى 'حماد'، أن ماركيوز يمثل محطة رئيسية في التاريخ السياسي للعالم خاصة ثورات الشباب والحركات التحررية الجديدة التي حاولت التخلص من عقائدية الماركسية وفي نفس الوقت تجعل من التحرر هدفًا لها، ولذلك فضلت أن يكون عنوان كتابي (فيلسوف النفي والتحرر) ولم أقل النفي والثورة؛ لأن الثورة يمكن أن تكون مرحلة من مراحل التحرر؛ بكن تظل قضية التحرر هي الأساسية عند الفيلسوف، التحرر من كل ما يحد من حرية وانطلاقة الإنسان'.

يصف أستاذ الفلسفة العقلية الدينية بـ'اللاهوتية القمعية'؛ لأنها تريد أن تقمع أي فكر أو معرفة أو علم لحسابها الخاص، بحيث يصبح تابعًا لها، إضافة إلى أنها عقلية لا تقبل المختلف والمغاير، وترفض التعددية ووجود الآخر، ولديها قناعة بأنها امتلكت 'الحقيقة المطلقة'.. وإلى نص الحوار:

الدكتور حسن حماد في حواره لـ الدكتور حسن حماد في حواره لـ 'أهل مصر'

♦♦ ماذا خسر المسلمون من تكفير الفلاسفة وتحريم الاشتغال بالفلسفة؟

♦ التكفير لم يقف عند الفلاسفة وحدهم؛ بل تعدى هذا إلى تكفير جميع العلماء، لدرجة أنه كان يُنظر إلى الهندسة والكيمياء على أنها من العلوم التي تؤدي إلى الضلال، وما زال التاريخ الإسلامي يؤكد - حتى هذه اللحظة - أن العلوم الشرعية هي الأساسية، والعلوم الوضعية أو التي صنعها الإنسان أقل مرتبة من العلوم الشرعية، وهذه هي النقطة الفاصلة في موقف تاريخ الإسلام من العقل البشري أو العقل الإنساني؛ لأن الفلسفة والعلم هما أهم منتجات العقل الإنساني إضافة إلى الفنون والآداب والشعر، لكن تظل هذه الخصومة موجودة.

وإذا نظرنا إلى أوروبا؛ نجد أنها استطاعت التخلص من هذه الإشكالية عن طريق تفكيك الفكر الديني أو ما نسميه بـ'العلمانية'؛ إذ أنهم نجحوا في الفصل بين الجانب المقدس (اللاهوتي) وبين الجانب الدنيوي، وللأسف نحن ما زلنا حتى هذه اللحظة معظم أطروحاتنا وإشكالياتنا تدور في إطار كيف يمكن للفلسفة أن تصبح 'فلسفة بدون دين'؟ وكيف يمكن للعلم أن يصبح علمًا بدون دين؟

أقرأ أيضًا: الشيخ أسامة إبراهيم: لا يوجد نص قطعي يُحرم زواج المسلمة من غير المسلم.. والمسألة تحتاج إلى اجتهاد (حوار - الجزء الثاني)

وهنا أؤكد على أن للدين قدسيته وسموه وعلوه؛ لكن العقلية الدينية التي أطلق عليها 'العقلية المهيمنة أو القمعية' تريد أن تقمع أي فكر أو معرفة أو علم لحسابها الخاص، بحيث يصبح تابعًا لها على طريقة 'سبحان من سخر لنا هذا'، وهؤلاء حتى في تعاملعهم مع الغرب يقولون: 'إن الله سخر لنا الغرب من أجل سعادتنا، والنظريات العلمية التي يتوصلون إليها مُسخرة أيضا لرفاهيتنا'.

الدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفةالدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفة

♦♦ هل هذه الفكرة شبيهة بـ'أسلمة العلوم'؟

♦ 'أسلمة العلوم' قضية أخرى ظهرت أثناء حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، نتيجة تديين وأسلمة المجتمع المصري، وتمثلت تلك الموجة التي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم في فكرة أسلمة العلوم الاجتماعية والطب والحياة عمومًا؛ فظهر الطب الإسلامي أو الطب البديل وعلم النفس الإسلامي... إلخ، وكل هذه تطبيقات وتنويعات على فكرة 'العقلية اللاهوتية القمعية' التي لا تقبل المختلف والمغاير، وترفض التعددية ووجود الآخر؛ لأنها عقلية لديها قناعة بأنها امتلكت 'الحقيقة المطلقة'.

أقرأ أيضًا: د. أحمد كريمة لـ"أهل مصر": الميزانية المخصصة للأزهر ليست من أموال الدولة.. "دي فلوس أجدادنا" (حوار)

كما أن العقل اللاهوتي إقصائي، بمعنى أنه يُقصي كل ما عداه، وهو أيضًا عقل نرجسي مُختال بنفسه ويشعر أنه يمثل 'تمامية الحقيقة' ونهاية العالم والتاريخ والنص المقدس، وبهذا المعنى نجد أن العقل أو الذهنية اللاهوتية لا تقبل أي جديد أو مُحدث، وهذه إشكالية متصلة في تاريخ الفكر الإسلامي منذ أحداث الفتنة الكبرى التي بدأ معها تكفير الآخر المختلف وإنزال اللعنة عليه، وحتى يومنا هذا.

♦♦ لماذا يعادي رجال الدين الفلسفة؟

♦ نحن دائمًا نقول إن التفكير الفلسفي هو أساس التفكير العلمي، ولذلك الفسلفة كفاعلية إنسانية لا تظهر إلا في المجتمعات المتقدمة (المدينية)، وهي دائمًا مرتبطة بتقدم العقل وبالمجتمع المستقر الذي فيه دولة قوية تحترم المعرفة وسلطتها؛ فالهمج أو العقلية البدائية لا تستطيع أن تؤسس لفلسفة.

الفلسفة هي مقدمة العلم، وكانت من قبل ظهور العلوم سواءً الطبيعية أو الإنسانية، ولذلك نحن نقول في تعريفها أنها 'أم العلوم' والحاضنة لكل المعارف الإنسانية، وحتى بعد تقدم العقل البشري وازدياد مسألة التخصص لدى الإنسان وظهور المناهج الرياضية والتطبيقية؛ لا تزال العلوم مرتبطة بالفلسفة.

أقرأ أيضًا: أحمد عبده ماهر: الأزهر لن يجدد الخطاب الديني.. وأطالب بإغلاقه 10 سنوات (حوار)

ولأن التفكير الفلسفي ضروري للتفكير العلمي؛ لذلك أنت لا تستطيع أن تفكر بصورة علمية ما لم تفكر بشكل فلسفي، لأنها التفكير المنظم والنقدي، وهي تعني القدرة على وجود رؤية، وأنا أُعرف الفلسفة بـ'أن يمتلك الإنسان رؤية للعالم، وأن يُفكر بعقله بلا حدود'، ولهذا يخاف رجال الدين من الفلسفة لأنها تسأل أسئلة مُقلقة ومُربكة ومُحيرة؛ فمعظم الديانات - وخاصة الإبراهيمية منها - تعتمد على مجموعة مسلمات، وهذه المسلمات لها قدسيتها واحترامها داخل إطار الدين؛ لكن المعضلة تتمثل في محاولة مد سلطة الدين لتطال الفسلفة والعلوم والفنون.. إلخ، لأنه في حال حدوث هذا تتجمد الحياة ويصبح التخلف هو السمة الأساسية.

الدكتور حسن حماد في حواره لـ الدكتور حسن حماد في حواره لـ 'أهل مصر'

♦♦ هل ميراث غياب التفكير الفلسفي هو السبب في تلبس الخرافة والأساطير بالعقل العربي؟

♦ الميراث الديني بشكل عام يعتمد علي المسلمات، وأنا ليس لديّ مشكلة مع هذه المسلمات، خاصة وأن الدين يعتمد على جانبين بشكل أكثر، أولهما: الوراثة، وثانيهما: الاعتماد على الجانب الوجداني أكثر من الجانب العقلاني، وأوروبا في عصر النهضة وعصور التنوير وجدت حلًا لهذه المسألة تمثل في أن الدين شأن ذاتي، واعتقاد الفرد يخصه وحده، ولا يحق لأي مؤسسة أو سلطة أو رجل دين أن يتدخل في هذا الاعتقاد، وبالتالي أصبح الدين أمرًا ذاتيًا أو حرًا، وسقطت 'الوصاية الدينية' أو الكهنوتية.

وهناك من يعتقد أن المجتمع الإسلامي في عصرنا الراهن ليس به 'كهنوت'، ويدللون على هذا بعدم وجود حكم ديني في مجتمعاتنا، وهذا تفكير يجانبه الصواب؛ لأن الكهنوت الحقيقي يبدأ من وصاية رجل الدين على المواطن، ومن ثَمّ يُصبح بمثابة المراقب على أفعال الفرد والمسئول عن تصرفاته والوصي على عقله.

أقرأ أيضًا: خالد منتصر لـ"أهل مصر": تبني بعض شيوخ الأزهر للفكر الوهابي أصاب العقل المصري بـ"الشلل" (حوار)

وهنا أؤكد أنه ليس لدينا مشكلة مع المسلمات، ونطالب باحترام مسلمات جميع الديانات ولكن في إطارها وحدودها الدينية المقدسة، كما إننا لا ننادي بإلغاء الدين؛ بل نطالب بتحييده في إطاره المقدس بحيث لا يتوغل أو يصبح مهيمنًا على بقية الأنشطة الإنسانية، حتى لا يتكرر ما حدث في معظم فترات التاريخ الإسلامي، وبالأخص منذ نهاية عصر الخليفة العباسي المأمون وبداية حكم المتوكل وما صاحب هذا من القضاء على المعتزلة وظهور الحنابلة، وهي الفترة التي بدأت معها سيادة موجة التكفير، وكان من آثارها أن عددًا كبيرًا من المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة قتلوا قتلًا جسديًا مثل: الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وغَيْلان الدمشقي، وابن المقفع، والسهروردي، والحلاج، والقائمة تطول.

إضافة إلى ظاهرة إحراق المكتبات أو إغراقها في الماء حتى يُمحى ما في الكتب، وهو نوعٌ من القتل المعنوي يعكس لنا مرارته ما فعله الفيلسوف أبو حيان التوحيدي، والذي حين تملكه إحساس بالقهر بادر وأحرق كتبه بنفسه، نتيجة شعوره بأنه 'مثقف مضطهد ومقهور'، وهناك محمد بن زكريا الرازي الذي ظلوا يضربونه بكتابه في الكيمياء حتي كاد أن يفقد بصره، وكل هذه الصور تؤكد أنك أمام ثقافة لا تحترم العقل.

أقرأ أيضًا.. الدكتور سعد الدين إبراهيم: الشارع العربي استقبل فوز "بايدن" بحذر وتخوف لأنه "مضلل".. و"ترامب" لم يكن نزيها مع العرب والمسلمين (حوار)

وإذا تصفحت كتب التراث التي تحكي سير الفلاسفة والعلماء تقرأ وصفهم فيها: 'الكافر، والملحد، والمشكوك في دينه... إلخ'، ولم ينجو أحدٌ من هذا الاضطهاد حتى أبو حامد الغزالي تخلصوا من بعض كتبه، ولذلك تجد أن كثيرًا من الفلاسفة كانوا في أوخريات حياتهم يتنكرون للفلسفة ويندمون على أنهم أفنوا أعمارهم في الاشتغال بها، وهو ما يدل على أنه إلى هذا الحد كان هناك نوع من الإقصاء والإبعاد واضطهاد الفكر الفلسفي في هذه البيئة، وبالتأكيد عندما يغيب العقل تحضر الخرافة أو 'اللاعقل'، وهذا كان سببًا رئيسيًا في اضمحلال الفكر الفلسفي والعلمي حتي هذه اللحظة، ولذلك حين تتأمل عقلية الإنسان العادي أو ما يُعرف بـ'العقل الجمعي' في عصرنا الحديث تجده عقلًا لاهوتيًا بإمتياز أو عقل سحري ارتد إلى مرحلة السحر التي كانت ترتبط بنشاط الصيد ما قبل الزراعة، وهذه كارثة.

الدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفةالدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفة

♦♦ هل العقل الجمعي في عصرنا الراهن قادر علي التخلص من الخرافة والأسطورة؟

♦ هذه مسألة صعبة جدًا؛ لأن الخرافة أسهل في التصديق من العقل، والفكرة الغيبية واللاعقلية والأسطورية التي تعتمد على السرد والحكاية والأقصوصة تخدر الأعصاب وتجذب العقل الإنساني وتحوله لـ'عقل طفولي'؛ فمثلًا عمرو خالد حين يتحدث عن سير الصحابة والقدماء يعرض بشكل سردي يجعلك تعيش داخل المشهد؛ فتبكي أو تشعر بالحماسة أو الضعف، وهذه هي لعبة التماهي مع الحدث القديم ومهمتها 'تعطيل العقل'.

والأسطورة نفسها تتضمن شكلًا من أشكال شلل العقل، ولذلك دائمًا الأفكار الغيبية والسحرية والتي تعتمد على القصة الطريفة أو الأسطورة المحكية تُسيطر علي العقل تمامًا وتحول بينه وبين التفكير بشكل إبداعي أو نقدي أو مختلف، وتجعله يركن إلى مسلماته ويستريح للماضي الذهبي المُنقى والمُصفى من كل الشوائب والنقائص حتى يصل إلى مرحلة 'أسطرة التاريخ والشخصيات' والتي تعني تحويل التاريخ كله إلى أسطورة وكأنه لا يتكرر، وأن أولئك القدماء شخصيات ملائكية متكاملة: لا يكذبون، ولا يسرقون، ولا يزنون، وليس لديهم هفوات، وهذا المعنى هو الذي تمت به قراءة التاريخ الإسلامي، ولذا أنا أدعو دائمًا إلى القراءة بعين وأفق نقدي وعقلي وليس من خلال هذه القراءة التقديسية.

♦♦ هل نحن بحاجة إلى تدريس مبادئ التفكير الفلسفي في جميع مراحل التعليم حتى نستطيع إحياء العقل الجمعي؟

♦ تدريس مبادئ التفكير الفلسفي من الممكن أن يساعد على إحياء العقل الجمعي وتخليصه من الخرافة والأسطورة، لكن هذا وحده لا يكفي؛ لأن الطالب يتعرض لتأثيرات قوية جدًا تأتي من جانبين، الجانب الأول: الأسرة بشكل أساسي، لأنها الخلية أو اللبنة الأولى لبناء المجتمع، والجانب الثاني: الفضاء العام ممثلًا في الشارع والمدرسة والمسجد والكنيسة ووسائل المواصلات والجيران والتليفزيون والسوشيال ميديا... إلخ.

كل هذه الروافد تلعب دورًا هامًا جدًا في تشكيل العقل وتهيئته إما لأن يكون 'عقلًا نقديًا' أو 'عقلًا غيبيًا'، لذلك حين تأتي وتُدرس مادة علمية أو فلسفية للطالب في ظل هذا الركام الضخم لن تؤثر فيه بشكل كبير؛ لأن الإنسان لن يتغير إلا إذا تغلغل الفكر داخل شخصيته، وهذا التغيير يحتاج إلى ثقافة عميقة جدًا.

يجب أن يكون هناك دور آخر أكثر فاعلية للإعلام ووزارات التربية والتعليم والثقافة والتعليم العالي، دورٌ يدفع الإنسان العادي إلى القيام بعملية تثقيف دائمة لنفسه، وسأعطي لك مثالًا: طلبة الجامعة يدرسون مادة الفلسفة، والمؤسف أن الأغلبية من أساتذة الفلسفة من الأصوليين.

أقرأ أيضًا: عبد الغني هندي: التيار الإلحادي اخترق الأزهر.. هناك قيادات داخل المؤسسة ضد الإصلاح.. وهذه رؤيتي لنقل تبعية الكليات العلمية إلى المجلس الأعلى للجامعات (حوار)

أضف إلى ما سبق أن السرديات المقدسة أو القصة الدينية لها تأثير كبير جدًا؛ لأنها تمنح البسطاء نوع من الطمأنينة النفسية تجعلهم يركنون إلى الدعاء ويتركون العمل، فمثلًا الفقراء لا يحاولون مضاعفة إنتاجهم حتى تتحسن أحوالهم المعيشية بل يكتفون بآمال دخول الجنة، وهنا إذا أردت أن تغير من فكر إنسان يؤمن بهذه السردية المقدسة لا تدعوه إلى التخلص منها؛ بل أدعوه إلى الإيمان بها بشكل عقلاني وحر وواعي، ولكي يتحقق هذا يجب أن توفر له الثقافة البديلة التي تُعطي له هذا الإحساس بالأمان النفسي، أما إذا أقفرت الثقافة وتصحرت وغاب عنها هذا الزخم الموجود فالإنسان يُفتش عن أي بديل، وهذا طبيعي لأن الفرد دائمًا بحاجة إلى الشعور بأن لديه غاية وهدف بعيدًا عن الطعام والشراب والجنس والمتطلبات المادية.

والثقافة عندنا حاليًا لا يوجد فيها فلسفة أو علوم أو فنون، ولذلك أصبح البديل الذي يسود في مجتمعنا هو إما 'ثقافة العنف' المرتبطة بجذر ديني، أو 'ثقافة التفاهة' التي أسميها 'ثقافة القدم' رمزًا إلى كرة القدم التي أحدثت نوعًا من الهوس لدى الكبار والشباب والصغار، ونفس الأمر ينطبق على السياسة؛ فإذا لم يكن لديك أحزاب سياسية قوية وفعالة في الشارع تستطيع استيعاب هذه الجماهير؛ فالبديل سيكون إما أحزاب كرتونية أو أحزاب إرهابية مثلما حدث قبل ذلك، وما زالت التربة مهيئة حتى هذه اللحظة لتكرار نفس السيناريو وإعادة إنتاج الخطاب الديني العنيف.

الدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفةالدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفة

♦♦ هل تكفير الفلاسفة والعلماء وإقصاء التيار العقلاني بالكلية عكس صورة للإسلام بدا معها وكأنه دين خالٍ من الروئ الفلسفية ومعادٍ للتقدم والتطور؟

♦ مأساة الفكر الإسلامي تكمن في ارتباط السياسي بالديني، وهذه الكارثة الكبرى بدأت منذ الفتنة الكبرى حين رُفع شعار 'الإسلام دين ودولة'، وهو الشعار الذي يرفعه معظم المسلمين الآن ويريد من خلاله رجال الدين أن يُصبحوا سلطة موازية لـ'سلطة الدولة'، وهذا ما نراه واقعًا في عصرنا الراهن بشكل أو بآخر وأحيانًا يتم بشكل صريح وأحيانًا أخرى بشكل مضمر.

والنصوص الدينية بريئة من هذا وخاصة النص المؤسس القرآن الكريم الذي يحتمل التأويل بلا حدود لكن تم تأويله بشكل أحادي من خلال هذه الجماعة التي سميت بـ'أهل السنة' والتي احتكرت لنفسها الحقيقة المطلقة، وبالتالي أصبحت هي التي تمتلك مفاتيح النص المقدس، بل وتمتلك النص نفسه، وتظن أنها تمتلك الإله بهذا المعنى طبقًا للحديث المشهور: 'تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة'.

أهل السنة والجماعة، يعتبرون أنفسهم الفرقة الناجية، وهذه هي الكارثة الكبرى في تاريخ الفكر الإسلامي المتمثلة في أن طائفة تحتكر لنفسها الحق المطلق وتصبح هي التي تتحدث بـ'اسم الله'؛ لأن هذه هي بداية الإسلام السياسي الذي يقوم على التحزب والفُرقة والطائفية، والنص المقدس برئ من هذا وقابل للتأويل بدليل أن هناك تأويلات أخرى للنص القرآني - تحديدًا - تحتمل أشياءً مغايرةً لما وصل إليه أهل السنة، ومن هذا المنطلق نحن نستطيع أن نقرأ هذا النص قراءات متعددة خارج إطار هذا الاحتكار وتلك المصادرة لحساب طائفة من الطوائف.

الدكتور حسن حماد في حواره لـ الدكتور حسن حماد في حواره لـ 'أهل مصر'

♦♦ في كتابات لك تقول: «معظم التاريخ الإسلامي هو محاولة لإلغاء العقل وترسيخ المسلمات ومحاولة للقضاء على أي فكرة تعادي المسلمات التي آمن بها الفقهاء والجماهير على حد سواء»؛ ما الذي تعنيه بهذه العبارة وأى مسلمات تلك التي أشرت إليها؟

♦ تعريف المسلمات هي الفكرة التي لا تقبل المناقشة؛ لذلك فالمسلمات الأساسية (الخاصة بالعبادات على سبيل المثال) لا تناقش؛ لأنها مقدسة وهي جزء من بنية أي دين، وما أقصده في عبارتي التي أشرت إليها أنت: أن المسلمات اتسعت بحيث شملت أشياءً لا علاقة لها بالمسلمات، وأن هناك أفكارًا كثيرة في تاريخ الإسلام أصبحت لا تقبل المناقشة مثل: عصمة الصحابة، وعصمة أولياء الله، وحتى عصمة بعض الشخصيات المعاصرة مثل الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي يُكفر كل من ينتقده؛ أليست هذه مُسلمة أن يصبح الشعراوي وكأنه شخصية خارج التاريخ؟! هو رجل دين ومثلما يقول الفقهاء: 'له ما له.. وعليه ما عليه'، وبهذا المعنى هو ليس نبيًا ويمكن أن يخطئ.

فأنا في هذه العبارة ضد فكرة تقديس الشخصيات، وأيضا ضد أن تتسع المسلمات لتشمل أشياءً خارج الإطار الديني، وهذا ما يحدث في عالمنا المعاصر جراء مد سلطة المقدس على أشياء ليست مقدسة.

الدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفةالدكتور حسن حماد - أستاذ الفسلفة

في الجزء الثاني من الحوار:

♦♦ الأزهر يجب أن يلتزم بحدوده.. ويكف عن ممارسة الوصاية على الدولة والشعب

♦♦ تجديد الخطاب الديني لن يحدث إلا بقرار سياسي.. وفوضى الفتاوى تهدد المجتمع

♦♦ السعودية بدأت التخلص من كابوس التطرف.. وما يحدث هناك سيلقي بظلاله على مصر

♦♦ أغاني المهرجانات والتطرف الديني وجهان لعملة واحدة.. وكلاهما يدعو إلى القتل

♦♦ أمريكا استخدمت الإرهاب في تنفيذ أغراض استعمارية.. وسيناريو 'أوباما' لن يتكرر

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً