يقول المولى سبحانه وتعالى في الآية 48 من سورة المائدة : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا )، فلماذا يتمسك المسلمون بأن هناك شريعة واحدة صالحة لكل زمان ولكل مكان ؟ وطالما أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لكل أمة شريعة ومنهاج تتناسب معها فلماذا يرفض بعض المسلمين القوانين الوضعية ؟ وما هو الفرق بين التشريع السماوي والتشريع الأرضي؟ حول هذه الأسئلة ذهب جمهور من العلماء إلى أن الشرائع وإن اختلفت أزمانها و کثرت أعدادها فهي لم تختلف إلا في الفروع والأعمال مع اتحادها، أما الفارق بين الشريعة السماوية والقوانين الوضعية فهى تتمثل في أن يقصد التشريع السماوي إلى تكوين المرء على مثال حسن الأخلاق، فيربي فيه طهارة القلب، وعلو النفس، ويقظة الضمير، والشعور بالواجب، ويعني بتوثيق العلاقة بين المرء وأخيه، وبين المرء وخالقه على أكمل وجه. بخلاف التشريع الوضعي، فإنه لا يعني إلا ما يجب على المرء بالنسبة للناس، وإن تعرض لما يخص المرء في نفسه ، فبقدر ما يعود من ذلك على المجتمع، كإجبار الناس على التعليم، فالقصد منه أن يكون أقدر على تبادل المنافع مع الغير ، وأن تقل الجرائم بنسبة ما يصل إليه تهذيب النفوس.
الشرائع السماوية سلبية وإيجابية وتحاسب على النوايا
في نفس الوقت ذهب جمهور من الفقهاء إلى أن الشرائع السماوية إيجابية وسلبية ؛ على معنى أنها تأمر بالمعروف وترغب فيه من طريق الوعد الحسن، وتنهى عن المنكر وأنواع الأذى وتنفر من كل ذلك بالوعيد المخيف، والزجر الشديد، فهي تقصد إلى جلب المصالح، ودرء المفاسد قصدا أوليا. وأما القوانين الوضعية فإنما تعني أولا بالنهي عن الأذي درءا للمفاسد في المجتمع، كما أن الشرائع السماوية أديان يتعبد بها، فامتثالها طاعة يثاب لأجلها، ومخالفتها معصية يعاقب عليها، فالأصل في الجزاء فيها أخروي. وإن تقررت فيها عقوبات مقدرة، أو غير مقدرة مما يوكل إلى أولي الأمر أن يقوموا بتنفيذه ودعا للنفوس الجامحة التي لا يثنيها عن الغي إلا أن ترى العذاب رأي العين . أما القوانين الوضعية الجزاء فيها دنيوي مادي، تقوم على تنفيذه السلطات التنفيذية والقضائية . في نفس الوقت فإن الشرائع السماوية تحاسب على الأعمال الداخلية والخارجية والتحضيرية، مما يكون وسيلة إلى غيره، ولكن القوانين الوضعية لا تتعرض إلا لبعض الأعمال الخارجية التي لها مساس بالغير : کالاستيلاء على ماله ، أو محاولة التعدي على بدنه ، أو العمل على التأثير في الرأي العام بما لا يتفق مع النظام المعمول به، ولأن التشريع السماوي من وضع الله سبحانه -وهو محيط بكل مادق وجل من شؤون عباده- يكون دائما عادلا مستوفيا لما يعنيهم من وجوه المصلحة التي يعلمها الله لهم حتى ينتهي الأمد الذي قدر لذلك التشريع . بخلاف النظام الوضعي؛ فإنه من عمل الواضعين من ذوي السلطة في الجماعة، وليس من شك في أن الوضع يتأثر في تكوينه، وفي عمله بالعوامل الاجتماعية: كالعرف، والعادة ، والبيئة ؛ وبالعوامل الطبيعية : كالزمن، والمكان، والجو؛ وأن تلك العوامل أو أكثرها عرضة للتغير فلا يكون القانون الذي وضعه الواضع في هذه الحالة ملائما لحالة أخرى تغيرت فيها تلك المؤثرات ؛ وطبعت فيها الأفكار بطابع آخر . والإنسان مهما بلغ من الفكر لا يستطيع أن يتكهن بما يحدث بعد، ولا يملك على الزمن أن يسير بالناس في جادة واحدة من نظام الحياة، لذلك ترى القوانين الوضعية دائما ناقصة وفي حاجة إلى تكميل، أو تغيير، وإلا كانت خائرة بعيدة عن المقصود منها وقتاما، وهذا النقص هو ما يتلافاه على الدوام رجال القانون بالتأويل والتغيير .