اعلان

صنائع المعروف تقي مراتع السوء في مجموعة "الكيس الأسود" القصصية

أعد الدكتور عزوز علي إسماعيل، قراءة نقدية في المجموعة القصصية للكاتب الصحفي حسام أبو العلا، والتي حملت عنوان "الكيس الأسود"، جاء فيها:

يطل علينا الكاتب الصحفي حسام أبو العلا بمجموعة قصصية جديدة تحمل عنوان "الكيس الأسود" بعد مجموعته القصصية الأولى "قلب مهزوم" في العام 2017، وتأتي هذه المجموعة بعد أن تشبع الكاتب من قراءات عديدة لمجموعات سابقة لكتاب كبار، وهو ما يظهر بجلاء في هذه المجموعة التي بين يدينا، والتي وصلتْ إلى خمس عشرة قصة، جمع فيها بين أساليب السَّرد القصصي الثلاثة السَّرد الذَّاتي والمباشر وسرد المذكرات، الأمر الذي يدل على إدراكه الجيد لتلك الأساليب السردية، وكذلك الأمر كان على وعي في بناء الحدث، وهنا لا بد أن نفرق بين شيئين هما بناء الحدث وبين صياغة الحدث في القصة القصيرة ، دائماً أشبه بناء الحدث ببناء العمارة ، فلم نختلف كثيراً في البناء، لأنه يكمن قي ثلاث طرق الأولى الطريقة التقليدية، وهي الطريقة التي كانت متبعة سابقاً كما كان الحال عند يوسف إدريس وجيل الستينيات، وهو الأمر الذي لاحظته عند الكاتب في هذه المجموعة، وهناك طريقتان أخريان لبناء الحدث، الأولى البداية بالحدث من نقطة التأزيم والثانية أن يبدأ قصته من الخطف خلفاً أي أن يبدأها من النهاية ؟ فهل أجاد الكاتب في ذلك أم لا ؟ وهل كان على دراية بتقنيات السرد في القصة القصيرة أم لا ؟ هذا ما سنتعرف عليه في تحليلنا لهذه المجموعة.

تبدأ هذه المجموعة بالقصة الأم أو قصة الإطار التي نسميها كذلك فهي المفتاح الرئيسي عند الكاتب، لأنه عنون بها المجموعة وغالباً ما تكون هي أفضل القصص، يستخدم فيها السرد الذاتي باستخدامه تاء الفاعل فيها، حيث يتذكر ما كانت الوالدة تقوم به من فعل الخيرات، عن طريق "الكيس الأسود" وهي لمحة وفاء ظل عليها البطل بعد وفاة الأم، ليلتقي بعلي ابن أم علي التي كانت تأتي لوالدته وتأخذ ما فيه النصيب ، والفكرة التي يلح عليها الكاتب هنا هو " البقاء على العهد" والوفاء الذي قل وجوده في هذه الأيام، ويلاحظ هنا أن الكاتب اتبع الطريقة التقليدية في بناء الحدث وهي البداية الهادئة في السرد ثم يصعد مع الحدث ونصعد معه باحثين عن الحل لتلك العقدة الممثلة في ذلك الكيس الأسود ، ثم تنفرج الأمور بمعرفة ما كان في هذا الكيس، وبمعرفة ما كان فيه "ينخدش الحياء" ويعرف السر، ولكنَّ الكاتب يختزل بداخل القصة إعلام الناس أن الدنيا ما زالت بخير، وأن هناك من يقدر المعروف لمن يستحق، وكانت أم علي ممن يستحق هذا المعروف، وظل ابنها وفياً وأصبح صديقاً لبطل القصة، تأكيداً على شيءٍ واحدٍ مهم جداً، وهو من يزرع الخير يحصد الخير، ومن يزرع الشوك يجن الجراح، فكانت أم محمود ممن يفعل المعروف في أهله، لذلك كان الحب والاحترام والتقدير من علي إلى محمود، وهما من الجيل الثاني الذي كان طبيعياً أن يقدر كل منهما الآخر، تأكيداً على احترام الكبار، خاصة في تنفيذ الوصية التي وقعت على كاهل محمود بطل القصة يقول الكاتب:" ماتت أمي وكان اليوم الأول لتنفيذ الوصية صعباً ومؤلماً عليَّ وأيضاً على "أم علي" التي رفضت قبول"الكيس الأسود" لكنها تراجعت أمام دموعي التي اختلطت بدموعها، ثم طبعت قبلة على جبيني ورفعت كفيها للسَّماء تدعو الله لأمي بالرحمة"، وهذه الفقرة هي مفتاح القصة، وفيها تكثيف شديد لمعاني كثيرة ممكن أن تُقال، ففيها الأم وفيها السيدة أم علي وفيها البطل وفيها الخير الذي يكمن في الوصية، وفيها الفكرة نفسها التي يلح عليها الكاتب منذ البدء ممثلة في "الوفاء بالعهد واحترام الكبير".

وفكرة المعروف التي كانت في القصة الأولى تتطور في القصة الثانية "جحود"، والعزف على وتر جحود الأبناء وبناء الحدث والدراما في جزئية عقوق الأبناء وتتطور لدرجة وصولها إلى القطيعة على الإطلاق، ولم يكتف بذلك الكاتب، بل يصل الأمر إلى أنَّ الأم التي جحدها أبناؤها ترضى بما آل إليه حالها من مرض وعدم رؤية بصرية، وترفض أن تُعلم بناتها بما حدث لها لعلمها الأكيد بأنهن لن يأتين لها لزيارتها، وهو ما وضح بعد مماتها حين رفضن الاتصال بابنها الوحيد الذي يعيش في الخارج خوفاً على أن ينفق شيئاً من ماله الخاص على جنازة أمه، رغم ما كانت تتكبده من أجلهن ومن أجل الابن العاق الذي سافر، وحرم أمه من ماله ومن رؤيته، وفضَّل البحث عن الغنى بعيداً عنها، ويعطينا الكاتب نموذجاً آخر للشفقة من تلك السيدة التي هجرها ابنها هي الأخرى، وهي الراوي العليم في القصة القصيرة، حيث أراد أن يبين أنَّ هناك أناساً يمدون يد العون لفعل الخير في كل زمان ومكان، وهو ما كان من تلك السيدة التي أصرت أن تساعد أم يوسف في علاج عينيها، ولكنها رفضت الذهاب معها إلى الطبيب وفضلت الموت في مكانها التي لم تتركه طيلة حياتها منذ أن كانت تقوم بالخدمة في البيوت إلى أن وصل حالها إلى هذا التدهور من عدم رعاية أبنائها لها، والكاتبُ هنا يحاول أن يعايشنا تلك المأساة الإنسانية التي بلا شك موجودة بالفعل في حياتنا ، هنا أوهناك، فهو يحاول أن يدقَّ ناقوس الخطر على قطع صلة الأرحام ، التي أمرنا الله أن نوصلها، فإذا كان الكاتب في القصة الأولى قد عزف على جزئية صنع المعروف والسير على ما عليه الآباء من فعل الخيرات، فهو هنا يؤكد أن هناك من يعقُّ والديه في الحياة وبعد الممات ، وفي كل الحالات يتناول صنع المعروف هنا أو هناك ، وقد بنى الحدث في القصة الثانية "جحود" على فكرة مؤلمة هي "العقوق" أو الجحود، يقول الكاتبُ في هذه القصة:" أمضيت ليالي طويلة بجوارها أستمع لقصتها التي تحمل بين سطورها ملحمة عطاء قلما تتكرر، وكيف كانت تعمل نهاراً خادمة في البيوت وليلاً في عيادة طبيب حتى تفي بطلبات أبنائها ثم ذاقت الأمرين لتدبير نفقات زواج بناتها ، وعلى الرغم من جحودهم تبتهل دوماً للخالق أن يسعدهم، وتبرر عدم زيارتهم أو الاهتمام بها بظروف الحياة القاسية"، ونرى في هذه القصة قد سار فيها الكاتب على الطريقة الثانية في بناء الحدث، فقد بدأها من نقطة "التأزيم" أي المشكلة أو العقدة حين رأتها تلك الراوية أو الساردة في شارع يبدو على ساكنيه الفقر المدقع والبيوت القديمة، فحاولت أن تستمع إليها فلاحظت أنها تعيش بمفردها، ثم تبدأ في سرد الحكي، وكيف أنَّها قد ذاقت الأمرين بسبب ما وصل إليه حالها، ومن عقوق أولادها، وكيف أنها مريضةٌ ولم تجد من يحنو عليها من هنا كان التأزيم أي أن الكاتب بدأ قصته الثانية من المشكلة أي من العقدة وبدأ بعد ذلك في شرح فكرته التي انتواها منذ البدء، وهي صنع المعروف يقي من مراتع السوء.

وفي قصة "دنيا" نرى العجب العجاب، حيث تموت الزوجة التي قاسمت الزوج هموم الحياة، وتتزوج الابنة الوحيدة، وتزف إلى ابن عمها ويجد الرجلُ نفسه وحيداً فيقرر أن يستقيل من عمله، إلا إنه رأى دنيا زميلة جديدة له في العمل، وعلمَ بأنها أرملة، وظلت في لبسها الأسود مدة العام تماشياً مع حالة الحداد على زوجها الذي لقي ربه في حادث كاد أن يقتل الابن أيضاً الذي نجا بأعجوبة منه، إلى هذا الحد يتوقع القارئ أن هذه الأنثى سوف تتزوج هذا الرجل، وهنا نقطة مهمة في السَّرد وهي التوقع، أوعدم التوقع، فالقارئ توقع بلا شك أن هذا الرجل سوف يتزوج دنيا القادمة من بلاد بعيدة بالإرث التاريخي، ولكن الأمر لم يتم على ما توقع القارئ وتظهر المفاجأة، وهنا نقول السرد يسير على غير ما هو متوقع من المتلقي رغبةً من الكاتب أن يدخلنا في جزئية أخرى وهي الوفاء بالعهد حين أوصت دنيا هذا الرجل العاشق لها بأن يظل بجوار ابنها الوحيد ومساعدته على تخطي أزمات الحياة، وقد كان منه ذلك، وهنا نؤكد على الفكرة العامة للكاتب منذ البدء، وهي صنائع المعروف تقي مراتع السوء، ويبدو أن الكاتب يحاول أن يعايشنا واقعاً مرئياً مع تسلسل القصص التي تسير وفق حدة السرد وارتفاع نبرته مع وجود روح فرانز كافكا في معظم القصص؛ حيث الحياة المأساوية الكافكاوية هنا في بدايات هذه المجموعة فنرى الموت مسيطراً على تلك القصص، نلاحظ أن كافكا قابعاً في الركن، حيث الحزن المخيم، ففي القصة الأولى تموت الأم وتوصي ابنها بفعل المعروف، ولكن هناك موتاً على كل حال، في القصة الثانية تموت أم يوسف وفي القصة الثالثة نرى جحود الابن بأمه التي تركته وتزوجت بعيداً عنه وكيف أن الأم تموت وتترك ابنها الوحيد لحماقات هذا الأب، الذي كان جاحداً على أمه ونرى في القصة الرابعة، تموت دنيا، وهنا تبدو النظرة الحزينة المؤلمة من الكاتب.

ولكن الألم يزداد في القصة الثالثة "الكهلة" تلك السيدة الفاضلة التي كانت تقوم بدور الجدة لهذا الابن الذي طرده والده إن جاز التعبير، ليخلو له الجو مع زوجته الجديدة، بعد وفاة الأم لترعاه تلك الكهلة ، وتسمع لشكوته وتحاول أن تصبر على تلعثم لسانه بعد أن أصيب به نظراً لموت أمه أمامه بسكتة قلبية، ولم يراع الأب ذلك، إلا بعد أن صرعته الأيام وتخلت عنه زوجته فيعود بعد رحلته وإبعاد ابنه عنه إلى تلك العجوز الكهلة فترعاه ، ويُقَابَلُ الجفاء بالحنان، ولكن الابن ظل في قلبه كره لن يمحوه الزمن أو تمحوه تلك القبل أوتلك الأحضان البائسة من والده حين جاء إليهم مكرهاً.

وجمال هذه القصة يأتي في تعقيداتها المتكررة، ودائرية الحدث؛ فالجدة ليست أم الأب بل شخصية أخرى كانت تعرف والدته وتحنو عليه، لأن والدته تزوجت من شخص آخر، وعاشت بعيدة عنه فقسا عليها، ولم تكن ترحمه إلا تلك العجوز التي كانت تشفق عليه منذ البدء، وبعد زواج أمه ليأتي الدور على الابن الذي يدفع ثمناً غالياً لتخلي أبيه عنه، ولم يجد سوى هذا القلب الحنون قلب تلك العجوز التي رعته وأعطته من حنانها الذي لم تره من أحد، بعد أن علمت أنها لم تنجب، والتعقيد يصل إلى مستواه الأخير من قبل الأم والجدة الكهلة والأب الذي لم تستمر معه زوجته حين اشتد عليه المرض، فلم يجد إلا تلك العجوز إنها قصة التعقيد بعينه، وهنا نرى القصة الدائرية فهي دائرية في الزمن ودائرية في المكان؛ حيث إن المكان الأول الذي كان من المفترض أن يعود إليه الأب لم يعد إليه إلا وهو في أشد الحاجة إلى الحنان بعد فقد ما كان يملكه من صحة وجاه، والزمن دائري أيضاً حين كانت البداية بتلك الأم التي لم تراع ابنها فكرهها حين تزوجت وابتعدت عنه فأصيب بألم في قلبه، ولكنه لم يجد إلا تلك الأم التي كانت تعرف والدته منذ زمن بعيد فتشفق عليه ليتركها ويعيش في بيت منفصل مع ابنه ثم يتزوج ويترك ابنه للأيام عند تلك الكهلة، ويمرض ويعود به الزمن مرة أخرى إلى حيث كان وهنا تظهر دائرية الزمن في هذه القصة، ونلاحظ أن الكاتب لم يذكر اسم السَّارد كما في معظم قصصه، فلم نعرف اسمه، وكأن الكاتب يشاركنا الحياة بأن نبحث للسارد عن اسم نتخيره سواء أكان اسما يدعو إلى الخير أم اسماً يدعو إلى الشر.

وفي قصة "اغتصاب" نجد ألماً، هذا الألم لم يكن نابعاً من كره تلك الفتاة لفكرة الزواج بشخصٍ لا تقبله بل كان الألمُ أنها تحيا في مكان لم تشعر فيه بالراحة، رغم أنها أطلقت على زوجها بأنه مغتصبٌ، وأنه لم يراع شعورها، كأنثى حيث لم يكن في مخيلته إلا إثبات فحولته فقط أمام هذه الأنثى، فأرادت أن تثبت ذاتها وكيانها بالعمل والتفوق، ولكن ما لم يكن في حسبانها أنها لم تجد متعتها الحقيقية، فرضخت إلى ذلك الوسيم الذي تودد إليه وطبع قبلة على يديها أشعرتها بأنوثتها، وكأنها تريد أن تقول إنها أنثى وللأنثى عالمٌ خاصٌ، تحيا فيه مع شعورها وأحاسيسها الخاصة، التي يجب أن يكملها الرجل، وإذا كانت قد ندمت تلك الأثى على قربها من ذلك الشاب الذي كان يعمل معها، فإنها في الوقت نفسه توصي الفتيات بأن لا يقبلن إلا ما يرغبن فيه ويتوسمن فيه الخير لكي تكتمل عجلة الحياة دون خيانة.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً