جاء الإعلان عن وقف إطلاق النار في ليبيا وعودة كل الأطراف المتنازعة إلى مائدة المفاوضات والقبول بما جاء في إعلان القاهرة من التوجه إلى المسار السياسي لحل الأزمة الليبية ليؤكد على نجاح التحركات المصرية لاحتواء الأزمة دون الوصول إلى نقطة الصدام العسكري بعدما لوحت بها أطراف إقليمية أخرى.
وأظهرت الدبلوماسية المصرية مرونة تكتيكية فذة في الملف الليبي بالتعاون مع كل الأطراف الليبية دون المساس بثوابت الموقف المصري المعلن والواضح والرافض لفكرة هدم الدولة الوطنية واستبدالها بدولة المليشيات والقواعد الأجنبية والتدخلات الإقليمية، تلك الثوابت التي تتسق مع الموقف المصري المطروح لحل أزمات الشرق الأوسط الملتهبة بالطرق السلمية ووفق مقررات الشرعية الدولية.
وأعلنت مصر عن نفسها بدبلوماسية ترسم خطوطاً حمراء تحميها قوة مسلحة رشيدة قادرة بصلابتها وخبرتها العسكرية على تحجيم التحركات الطائشة والرعناء لخصم أحمق يسوق قوته المسلحة في محيط مشتعل بالمخاطر والانهيارات ومظاهر الفوضى الناتجة عن فشل الدولة وسطوة المليشيا على القرار السياسي.
وأثبتت الدبلوماسية المصرية الجديدة فاعليتها في مواجهة من يحاولون محاصرة مصر في ملف لتمرير ملف أخر، فكانت الخطوط الحمراء حاسمة في ليبيا، والتمسك بالتفاوض في أزمة سد النهضة، بعدما انهارت مظلومية الجانب الأثيوبي بإعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي أن لا حل عسكري لأزمة سد النهضة ليسقط ورقة التوت الأخيرة عن الفائز بجائزة نوبل للسلام ويضعه في مواجهة مختلفة مع الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن فقط باعتباره شخص يهدد الأمن والسلم العالمي بعدم التزامه بالتفاوض لحل الأزمة.
تلك التحركات المحسوبة بدقة تطرح مصر كلاعب إقليمي عاقل و نزيه، يحقق مصالحة بأدوات مشروعة، كطرف يقدر الحلول الدبلوماسية ويسعى للسلام وتعزيز أطر التعاون المشترك دون أي تدخل في الشئون الداخلية للدول، وهي مدرسة تميز إدارة الملفات الاقليمية في عهد الرئيس السيسي وتفتح امام مصر أفاق مختلفة من العلاقات الثنائية مع جيرانها، وهي كلها أمور ترد بذاتها على أكاذيب الإعلام الإخوانى المعادي.
تدير مصر علاقتها الخارجية بنجاح وفق قواعد تتناسب مع عصر جديد تتغير فيه معادلات القوة بشكل متواتر وتحكمه محددات حرب عظمى على ادارة العالم بين الولايات المتحدة والصين وهو ما يطرح على مصر ودائرتها العربية والافريقية والمتوسطية تحديات كبيرة تريد عقلا منفتحا وقوة عسكرية قادرة تحمى "الخيارات الصعبة " والمصالح التي لا يمكن التفريط فيها.
وتنطلق مصر دوليا على خطوط عرض وطول راسمه مسارات جديدة للتحرك المصري من أجل حل الأزمات العربية المستعصية، فهي تدعم العراق وتساعد لبنان دون أن تتأثر خطوط الاتصال المتينة مع السودان ودول الساحل والصحراء وتشكل تحالفات مصالحيه مع فرنسا واليونان وقبرص لحماية غاز المتوسط من بلطجة الحمقى دون أن يغيب عن نظرها أمن الخليج ودعم الاشقاء في السعودية والإمارات والبحرين.
صحيح أن القضية الفلسطينية لم تفقد مركزيتها التقليدية فى السياسة الخارجية المصرية ولازالت مصر تدعم خيارات الشعب الفلسطينية إلا أن حركتها مقيدة بغياب الواقعية عن الفصائل الفلسطينية واستمرار التنازع بينهم وخضوعهم لأطراف اقليمية تبحث لنفسها عن مكان على الطاولة باصطناع الأزمات وهو ما يعطل أي حل نحو السلام ويفقد الجميع القدرة على الحل.
باختصار.. أصبحت الدبلوماسية المصرية تمثل العقل المفقود في الشرق الأوسط ولا تطلب سوى الرشد في تحقيق المصالح .