موسيقى رياض السنباطي، ترحل بك إلى عالم من الخيال، وتأخذ أذنك في رحلة فضائية بعيدة، تتجول بها بين نجوم السماء، أو تأخذها في جولة أرضية بين حدائق الأرض وفراديسها، موسيقاه تحترم المستمع، وتحرص على ذوقه، فتغنيه عن أن يلتفت إلى ما دونها، أو يتطلع إلى سماع غيرها، فهي تأثره، وترتقي به وبذائقته.
لم يكن ليصل السنباطي إلى ما وصل إليه لولا التزام ذاتي، وإيمان داخلي برسالة الفن وقيمته، هذا الالتزام هو الذي قاده للتجويد والإجادة، فكان اختياره للكلمات بعناية، له أو لمن يلحن له، فكان أن لحن قصائد فصحي، وكان رائدا فيها، لكبار شعراء الفصحى مثل أمير الشعراء، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم ناجي، ومحمد إقبال الباكستاني، ومحمود حسن إسماعيل، وأحمد فتحي، وبشارة الخوري، والأمير عبد الله الفيصل، وحتى من الشعراء القدامى، أمثال: أبو فراس الحمداني، والإمام البوصيري رضي الله عنه، والعباس بن الأحنف.
وفي العامية، لم يكن ليقبل بما لا يرتقي بالذائقة، ويرفع من الثقافة، ويسمو بالذوق العام، فكانت عامية راقية لكبار شعراءها المنسلخين عن الفصحى إلى بساطة عاميتهم الجديدة، أو المزاوجين بينهما في الصورة والموسيقى، أمثال: بيرم التونسي، وأحمد رامي، وحسين السيد وعبد الفتاح مصطفى.
والأمر لم يتوقف على جودة الكلمات، بل صاحبه مراعاة جمال المعنى وقبوله، ومدى وصوله، فالمعنى هو جوهر المبنى، وبيت القصيد، والموضوع الديني من الموضوعات التي برع السنباطي في تلحينها، كما برع في غيرها من الموضوعات العاطفية والتاريخية، وتميز فيها تميزاً ملحوظاً غناءً وتلحيناً، بل وبزّ غيره من الملحنين فيها، وكأنها جاءت من صميم روحه، وما يستحوذ على وجدانه، فخرجت منه كأنما تضرع داع، ودعاء مبتهل، وتبتل عابد، ومناجاة متصوف.
ولسوف تنبهر بكم هائل من الأغنيات الدينية، التي أجادها ولا زالت حيَّة في وجدان شعوب العربية، ومرشحة لأن تستمر تنبض وتتنفس على ألسنتهم وفي وجدانهم، منها: ولد الهدى، نهج البردة، سلوا قلبي، رباعيات الخيام، إلى عرفات الله، حديث الروح، القلب يعشق كل جميل، وجميعها جواهر متلألئة على جيد التاريخ الغنائي لأم كلثوم، وعلامات بارزة في عالم الغناء الديني والفلسفي، ونجوم من سماء رياض السنباطي الموسيقية ورائعته من كلمات حسين السيد، "إلهي ما أعظمك"، ورائعته الأخرى "لبيك يا ربي" للشاعر عبد الله شمس الدين غناء المطربة فدوى عبيد، ورائعته التي غناها من كلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل "ربي سبحانك دوما يا إلهي".
ورائعته الكبرى في نظري، في هذا المضمار، هي أغنيته "إله الكون" بصوته الرصين، الشجي، الممتد، ولحنه الصوفي الرقيق العذب، وهي تصوِّر حالة الإنسان الحائر بين بشريته ونفخة الله في روحه، بين متطلبات جسده وتطلعات نفسه ووحي الضمير، بين ميوله للانجذاب إلى الأرض والطينة التي خُلق منها، وبين رغبته في السمو إلى السماء، أغنية تجسِّد الضعف الإنساني أمام الجمال المفتون به، وحيرته بين التزامه أمام خالقه، وتأثره بجمال مخلوقاته، وهو معنى فريد يصور حالة نفسية جميعنا يقع فيها، وقلَّما يعبر عنها فنان، وقد صورها السنباطي أداءً وتلحيناً، وساعدته كلمات "حسين السيد" الرائعة، على بساطتها، في الخروج بهذه الصورة الأخاذة وعلى هذا النحو المؤثر.
وتبدأ الأغنية بمقطوعة قصيرة، هل خلاصة دعاء الانسان الضعيف عندما يقف بين يدي ربه طالباً السماح وطامعاً في الغفران معتذراً عما بدا منه، وعما اقترفت يداه، ومتعللاً بضعفه، يستهل الإنسان فيها حديثه متوجها إلى خالقه متذكراً عظمته ليستهل كلامه في أدب وخشوع بـ "إله الكون .. سامحني" يؤديها السنباطي في خشوع وتأدب وحنو وينتهي بـ "أنا إنسان يا ربي أنا إنسان" في تعطّف واستعطاف.
إله الكون سامحني أنا حيران
جلال الخوف يقربني من الغفران
وسحر الكون يشاورلي على الحرمان
وانا إنسان يا ربي أنا إنسان
لينتقل الشاعر بعد ذلك إلى تحليل لموقفه الضعيف، سارداً حيثيات هذا الضعف ومبرراته، فهذا الجمال الذي يبرز في كل مخلوقات الله يسلبه لبه، فهذه الخدود التي صفا لونها كأنه الفجر الرائق، والتي تكاد تفتن بجمالها ربيه الورد في زهوه وأوانه، وأنه خشي على وجدانه وقلبه من أن يكون أسير هذه الفتنة، أو أن يستوطن الشوق إليها قلبه، وحتى إذا ما عاد إلى وحدته هروباً منها، ورأى نفسه في روضة من الورود والأنغام والألوان، ذكّره الورد بما كان يسلو عنه بالورد، فلا ينفك يذكر تلك الخدود، وقد حرمته النسيان، لينهي هذا المقطع بنفس التعطف والاستعطاف "يا خالق الورد سامحني أنا إنسان". كأنه يقول: يا رب.. أنت الذي خلقت هذا الورد الجميل، الذي ذكرني بما كنت أود نسيانه.
...............
قابلت خدود صفا لونهم بلون الفجر في أدانه
وفيهم لون خجل يفتن ربيع الورد في أوانه
لقيت الفتنة ح تصادف كيان عايش بوجدانه
وخفت الشوق يسهيني يلاقى في قلبي أوطانه
رجعت لوحدتي أشكي ضنى قلبي وحرمانه
لقيتني في روضة بتغني نغم ألوان
جمال الورد فكرني على الأغصـان
بلون الخـد وحـرمني من النسيـان
يا خالق الورد سامحني أنا إنسان
-----
وبعد أن عرض، الإنسان الضعيف، افتتانه بالخدود صافية اللون، وطلب السماح، تأتي المقطوعة الثالثة لتتناول افتتانه بجمال العيون الساحرة، التي يهرب الإنسان من سحرها حتى يستجير بالليل منها ويتدثر بسحابه، فيجد في النوم غايته لنسيان التفكير في جمال هذه العيون، فيفاجئ بأنها لا تتركه وشأنه، فتداهمه في أحلامه، وتطارده في نومه، وتوقظ فكره لينهش في رأسه، وتذكّره بحرمانه، الذي لا يقوى الصبر المتعطش على تدعيمه، ولهذا فهو يسأل الله خالق هذا الصبر المتعطش الذي لا يقوى على الاستمرار أن يرحمه "يا خــالق الصبـر ارحمني أنا إنســان"
.................
وشفت عيون بتسألني سؤال احترت في جوابه
على رمش الهوى كلمة حروفها قلبي وشبـابه
جريت منهم ومن روحي .. ومن قلبي وأحبابه
لحد الليل ما قابلني وقلت ادارى بسحـابه
وانام وانسى هوى الدنيا واسيب العشق لاصحابه
لقيت فكري صحي منى وانا نعســان
على عيون جت تكلمني عن الحرمان
أتارى الصبر غافلنى وكان عطشــان
يا خــالق الصبـر ارحمني أنا إنســان
-----
المقطوعة الرابعة والأخيرة، هي خلاصة القضية، إنه هو ذلك الانسان العاشق لجمال خلق الله وقدرته، وهو يملك العيون التي يشاهد بها ما في الكون من جمال الله وابداعه في كل شيء، وأن هذه العيون لا تشبع من تأمل الجمال والاستمتاع بمشاهدته "وليا عيون إذا شافت تحب تشوف كمان مرة "، وأن ذنبه هو ذلك الهوى القلبي، الذي يتملكه فيملأه بالأمل والتمني، ولهذا فهو مفتون بجمال وسحر الكون، لكنه يخشى ويخاف أن ينشغل بالمخلوق عن الخالق، وبالموجود عن الواجد. وخوفه هذا يقربه من الغفران والرحمة، وهو أولاً وأخيراً، إنسان، كائن ضعيف. وهكذا في رقّةٍ واستعطاف وتعطف ينهي رائعتة "وانا إنسان يا ربي أنا إنسان".
...............
إله الكـون انا عـــاشق جمــال الخـلق والقـــدرة
باشوفهم فى الجبال قوة وفى عيون الأمل نظرة
واشوفهم فى الفضا عزة
وفوق خدّ الهوى شعــرة
وليا عيون إذا شافت تحب تشوف كمان مرة
وذنبي في الهوى قلبي، يحب يعيش ولو بكرة
إله الكون سامحني أنا حيران
جلال الخوف يقربني من الغفران
وسحر الكون يشاورلي على الحرمان
وانا إنسان يا ربي أنا إنسان